رحم الله أستاذى «حسن الكفراوى»، مدرس التاريخ بمدرسة «محب» الثانوية.. كنت أراه من مقعدى فى آخر الفصل، يخايلنى طربوشه الأحمر وبدلته الشركسكين البيضاء معتصماً فى كبرياء العلماء.
كان يتكلم بصوت خفيض، بالكاد يصلنا عميقاً، وحقيقياً.
يقول: «أحسب مصر هذه وطناً للأعاجيب.. صنعت التواريخ وقدمتها منحة للدنيا.. بلد الخيال والحرية، وطقوس الأسرار، تحتفى بالميلاد فتطلق لمقدمه الأناشيد والأغنيات، وتحتفى بالموت، فتطلق صرخة الرحيل والغياب. أقامت للعدالة آلهة، واختارت «ماعت» رمزاً لسلطة الحق، حتى إن سلطة العدالة كانت أقوى من سلطة الفرعون الإله»!!
يسير فى ممرات الفصل، وتسمعه كأنما يحادث نفسه: (أمضى المصريون أعمارهم يكافحون من أجل دستور، عادل وضامن لحقوق الناس، وحام لها كرامتها، ومحقق لها حريتها).
ألقى بى الزمن للحلم بمقدم حكومة تأتى بأيام كدح نبيل، وعدالة رشيدة، وفيض من خير يعم أرض الوادى، وعشت أصغى لجدتى الأمية تحدث نفسها «الرحمة بين الناس عدل.. واللى قبلنا قالوا: انتبهوا: الحياة آخرتها موت».. ثم تواصل القول «الشجاعة زينة الرجال، والرحى ما تدور إلا بقلب من حديد».. وكانت تحذرنى «الله على المفترى والظالم وعليك أن تعرف الحق والمستحق».
ومع الوقت أتعلم أن مصر شافت من الدساتير الكثير، منها النافع، ومنها غير النافع، وعرفت أن شعب مصر كافح كثيراً من أجل دستور عادل، وإنه مع حركة يوليو 1952، تغيرت الأحوال، إنه مع هذه الفترة توحشت السلطة التنفيذية، عبر نظام الزعيم الذى بيده كل شىء، والذى يعرف كل شىء، وإنه عبر سلطته التنفيذية قمع السلطة التشريعية، لتأكيد سلطته ودولته!!
وتواترت الدساتير، لا فرق بين دستور وقانون، مع أن الفرق شاسع لمن يعرف ويدرك، وإنه فى آخر الدساتير الذى يجرى عليه الاستفتاء الآن قد وصلت مواده إلى 236 مادة.
يقول الفقيه الدستورى الفاضل «د. إبراهيم درويش» (الدساتير الحديثة لا تزيد بأى حال على 20 مادة لأن الدستور فقط يتضمن أربعة أمور تتعلق بالحقوق والحريات والسلطتين التشريعية والتنفيذية وأخيراً القضائية).
وحقيقة الأمر أن مصر فى وقتها الراهن، تروع بدساتير أنجزت بليل، وفى غفلة عن البشر، وتم تسويقها من خلال التخويف والاستبعاد، وفرض دستور بقوة سلطة الجماعة الدينية، والمدنية، وحصر مصير وطن داخل رؤى قديمة، وأفكار ثابتة، تنذر بالتعصب الدينى، وتعادى قيم الدولة المدنية، القائمة على الفصل بين السلطات، وتحويل كل الأحزاب القائمة فى الواقع السياسى إلى أصوات زاعقة، تحقق وجودها فى حلقات تليفزيون عقيمة، أو جماعات تحتشد فى الميادين، كما تقوم بمصادرة حق قضاة الوطن فى ممارسة حقهم فى الدفاع عن دستور حقيقى.
إن ما يجرى لقضاة مصر الآن من تجاوزات يذكرنا بما جرى لهم أثناء مذبحة القضاء فى العام 1969، فى عز سطوة القمع الذى يذكرنا به الفقيه الفاضل/ إبراهيم درويش فيقول «أكبر خطيئة فى تاريخ مصر.. فالقضاء فى كل أمة من أعز مقدساتها .. فالسلطة تمتلك أدوات العنف واستعملت العصا الغليظة لتأديب القضاء وهم بدورهم لا يملكون إلا قول الحق .. فى العام 1969 تم إنشاء محكمة عليا وإصدار قوانين لإصلاح القضاء وتم التخلص مما يقرب من مائتى عضو من أعضاء الهيئات القضائية ويقينى أن عدوان 1956 تمت إزالته، وكارثة 1967 تجاوزناها بانتصار 1973 ولكن منذ انهيار القضاء فى العام 1969 أصبحت الشخصية القضائية هدفاً لهذه المحاولات المتكررة فهى جريمة لا تنتهى بانتهاء حدوثها ولكن آثارها لا تزال ممتدة حتى الآن»!!
ينتهى العالم الجليل من ذكر ما جرى، ويقتحم الذاكرة أفاضل قضاة مصر، وهم يؤسسون القوانين، ويجوبون عالمنا العربى فى أول حداثته، حين كان مكاناً للبداوة، والعيش فى الماضى، ينشئون الدساتير بسؤال الدفاع، وإجابة العدل، حاملين القيم التى نادت بها من قديم حضارتهم، ليرسوا فى كل وطن من أوطان أمتهم قيم العدل والحرية.
هؤلاء هم قضاة مصر الذين يعيشون محنة القمع والاستبعاد والذين لا يكفون عن المقاومة، متابعين الخطى المجيدة لقضاة مصر العظام.