«مصطفى» بعد 10 سنوات فى الشارع: «عايشين فى غابة.. والموس سلاحى»
![«مصطفى» بعد 10 سنوات فى الشارع: «عايشين فى غابة.. والموس سلاحى»](https://watanimg.elwatannews.com/old_news_images/large/174752_660_4543874_opt.jpg)
الشوارع كلها ملك له، والميادين ساحة لعبه، والحدائق سريره الخاص، هنا يجلس مع أصدقائه يتبادلون الحكايات والمواقف الصعبة معاً، وهناك يرقد إلى جانب سور الحديقة بحثاً عن مكان مستوٍ يريح جسده من عناء يوم طويل، لا يوقفه أحد عن مواصلة سيره فى الشوارع والطرقات، حتى قدماه المتورمتان من كثرة المشى لم تخذلاه يوماً فى البحث عما هو جديد فى شارع ملىء بالتفاصيل والمواقف التى لا تنتهى.
بوجه شاحب وعينين منكسرتين ورأس طوقها بطوق بلاستيكى جعله مميزاً فى ميدان السيدة زينب يجلس على سور الحديقة التى تتوسط الميدان، يأخذ نفساً عميقاً من عقب سيجارة منتهية التقطها من الأرض ليمنح نفسه «اصطباحة» مجانية بعدما أفلست جيوبه من النقود، فى الصباح تبدأ جولته المعتادة فى جمع فوارغ زجاجات المياه الغازية، يحمل جوالاً كبيراً ويجوب الشوارع والطرقات وصناديق القمامة بحثاً عن تلك الفوارغ التى هى مصدر رزقه الوحيد، فيمكنه الحصول على قدر جيد من المال بصحبة تلك الفوارغ، يجوب شوارع المحافظة يميناً ويساراً وينطلق نحو أكثر المناطق توقعاً بوجود فوارغ كثيرة بها مثل كبرى المحلات والمطاعم الشهيرة لينبش مخلفاتها، ويجنى منها ما يعينه على قضاء حوائجه طوال اليوم، «مصطفى» الذى أكمل عامه الـ17 يرى أن حياته فى الشارع صارت قدراً يعيشه منذ الطفولة، منذ أن خرج من بيت والده هرباً من قسوته وعنفه الدائم ضده ليجد نفسه واحداً ضمن 2 مليون طفل من أطفال الشوارع، يجلس «مصطفى» على حافة السور متأملاً حاله الذى لم يجن فيه سوى قليل من المال، وكثير من المواقف والصدامات، يرفع يديه ليشير إلى بقايا جرح غائر فى وجهه، يتذكر ذلك اليوم الذى أصابته فيه مطواة من عدد من أولاد الشوارع كانوا فى طريقهم للاعتداء على فتاة فى الشارع فى وقت متأخر، كان «مصطفى» يرى فيها إحدى أخواته، قرر الدفاع عنها والاستجابة لصرخاتها، وما كان منهم إلا إصابته بجروح غائرة فى أماكن متفرقة من جسده من أسلحة بيضاء كانت فى أيديهم، كانت أكثرها ظهوراً تلك التى تقف على حافة عينه، يحكى «مصطفى» عن أنه لم يسعَ يوماً للاعتداء على أى فتاة يراها، لأنه وكما يقول «عندى إخوات وبخاف قوى لحسن اللى أعمله فى أى بنت يتعمل فيهم، عشان كده ما بقربش لأى حد فى الشارع».
الاعتداءات الجنسية التى تحدث لأطفال الشوارع تكاد تكون بصورة يومية، يحكى «مصطفى» عن أحد الاعتداءات التى تعرض لها يوماً من رجل كبير أجبره على الذهاب معه فى شقة على بُعد مسافة بسيطة من الحديقة التى كان يعيش فيها، يذهب معه منكسراً، وتحت سطوة السلاح الذى يشهره فى وجهه يخضع لرغبته ويسمح له بالاعتداء عليه، يخرج الصغير منكسراً يشعر بالذل والمهانة لم يشعر بهما من قبل، يقول: «حسيت بعدم الأمان، حسيت إننا عايشين فى غابة القوى بيسيطر على الضعيف أو اللى معاه سلاح هو اللى قادر يعيش». تجربة قاسية عاشها «مصطفى» جعلته يقرر الاحتفاظ بسلاح يحميه من اعتداءات الأقوى منه، ربما لم يتمكن من الحصول على مطواة، على حد تعبيره، لكنه يحرص دائماً على حمل شفرة موس فى ملابسه يخرجها وقتما يشعر بعدم الأمان، وحين يصبح رهن اشتباكات معتادة تحدث كل يوم فى الشارع، ربما لا يخاف «مصطفى» على حياته أو جسده بقدر خوفه على مقتنيات يحصل عليها بصعوبة بالغة، وكان آخرها هاتف محمول صار هو أغلى ما يملك على حد تعبيره، هاتف لا يتجاوز ثمنه المائتى جنيه جعله فى قلق وخوف وحيرة عسى أن يفقده بالقوة مثلما يحدث له فى كل شىء. تناول الطعام ليس بمواعيد محددة، كما أنه لا ينتظم فى تناول الوجبات الثلاث فقط قد يتناول وجبة واحدة على مدار اليوم ويقضى بقية اليوم فى صحبة السجائر وبعض أنواع المخدرات المتاحة له ولغيره من أصدقائه، وربما يحصل على رغيف من الطعمية أو الفول يعينه على قضاء ليله دون شعور بالجوع. يتحدث «مصطفى» عن تلك اللحظات التى افتقد فيها طعام أمه التى توفيت قبل أن يكمل عامه التاسع، يتذكر لحظات طواها النسيان بفعل أحداث وتفاصيل متتالية ألهته عن أجمل سنوات عمره، على حد قوله.
مطاردات رجال الشرطة له ولغيره من أولاد الشوارع لا تتوقف يوماً واحداً، لكنه استطاع أن يكفى نفسه شر تلك المطاردات بالسعى لمسح بلاط قسم الشرطة بالميدان الذى يوجد فيه، وهو عمل تطوعى يقوم به من أجل إبعاد أعين رجال الشرطة عنه، وكسب تعاطفهم معه.
«مصطفى» رغم تجوله الدائم وتنقله من مكان لآخر فإنه وقت النوم يحرص على البقاء فى مكانين لا ثالث لهما، أحدهما هو ميدان السيدة زينب، والثانى ميدان رمسيس حيث أصدقاؤه القدامى الذين عرفهم منذ أن خرج إلى الشارع قبل عشر سنوات كاملة، يقول: «وقت النوم باحاول أبقى جنب ناس أعرفها عشان الدنيا ما بقاش فيها أمان، أوقات أصحابك بيفتروا عليك، بس هى دى حياة الشارع، وأى واحد فى الشارع عارف ده كويس».
تنتهى رحلة «مصطفى» اليومية وجولاته بحثاً عن زجاجات فارغة للمياه الغازية هنا وهناك ليقوم ببيع ما تم تجميعه لأحد التجار بميدان السيدة الذى يشترى منه الجوال الكبير بـ30 جنيهاً بينما ربع الجوال أو نصفه لا يزيد على الثمانية جنيهات، وهو مبلغ قد يعينه على قضاء يوم طويل من البحث والمعاناة، ليترك على جسد الصغير علامات تطمس لون جسده الحقيقى فبات اللون البنى الترابى هو اللون الوحيد المميز لطفل الشارع ليتساووا جميعاً فى نفس اللون، وأقدام متورمة جافة متشققة، ربما لا يتذكر أن يغسل جسده بالماء والصابون إلا مرات معدودة تكون أغلبها فى أحد حمامات المساجد المحيطة بالميادين، يعرف «مصطفى» الأطفال الجدد فى الشارع، يقول: «أى واحد جديد فى الشارع بييجى واحد أكبر منه ويخليه يسرح بمناديل أو شغل عشان يجيب لقمته، ويوم ورا التانى بيتعود ومبيرجعش بيته تانى وبيشوف كل اللى إحنا بنشوفه، الشارع مبيفرقش بين صغير وكبير»، قد لا يجول بذهنه يوماً الذهاب إلى أحد المستشفيات لتلقى الرعاية الصحية إذا ما أصابه مكروه، فيعرف طريق علاجه بنفسه، وهو الصبر على الألم، كما يقول، ليصبح الصبر رفيقه الذى لا يخذله يوماً.
اخبار متعلقة
أطفال الشوارع: حكايات الجوع والاستغلال السياسى والانتهاكات الجنسية
أطفال يكشفون: نحن وقود المظاهرات والاعتصامات والعنف
من الحدائق والميادين العامة إلى الأضرحة وأسفل الكبارى.. هنا يعيش أطفال الشوارع
المستشفيات ترفض استقبالهم وتبلغ عنهم إذا طلبوا «الخدمة الصحية»
رئيسة «القومى للطفولة والأمومة»: الظاهرة أصبحت «قنبلة موقوتة»
«الوطن» ترصد انتشار الإيدز بين أطفال الشوارع