بعد الانتهاء من عاصفة الإعلان الدستورى مرورا بعاصفة الاستفتاء على الدستور والخروج من معارك كثيرة بين الأطراف السياسية المختلفة نجد أنفسنا الآن فى واقع جديد وأمام تحديات جديدة. أول ما أذكر هنا ستكون آثار الانقسام السياسى الحاد وآثاره الاجتماعية التى شعر بها تقريبا كل بيت فى مصر. هذا الوضع الذى وصلنا إليه اجتماعيا وسياسيا يضرب لنا جرس إنذار يلزمنا جميعا الانتباه له ولآثاره التى قد تكون أكثر ألما وتهديدا للوطن إذا تكررت مرة أخرى.
المفهوم الحقيقى الذى من شأنه إعادة الأمور إلى نصابها هو البحث عن المربعات المشتركة بين الجميع فى فهمهم وفلسفتهم للنهوض بالوطن وكيفية إدارته والخروج من أزماته. مبدأ التوافق الواقعى الذى يفتقده الكثيرون هو الحل المنطقى لكل ما نمر به. وأذكر هنا التوافق الواقعى أى إنه ليس التوافق الحالم الذى يستحيل تحقيقه فى ظل أجواء التنافس فى استحقاقات سياسية وانتخابية قادمة وأيضاً ليس التوافق الصورى الذى لا يغنى ولا يسمن من جوع وكل هدفه هو إضافة إلى رصيد إعلامى لفصيل على حساب فصيل آخر.
التوافق الواقعى الذى أعنيه هو التوافق بين الأطراف السياسية المتعددة على أرضية مبادئ واضحة يتمسك بها جميع المتوافقين على أن تكون هذه المبادئ لا يختلف عليها وتخضع لمعايير وطنية فى المقام الأول. ويلزم المتوافقين أن يجلسوا على طاولات الحوار منطلقين من منظومة قيمية حاكمة فلا يعقل أن تجلس على طاولة حوار وأنت تبطن لمن أمامك كل مشاعر الغبن والضغينة وتكمن فى نفسك كل محاولات إسقاطه. التوافق يلزمه الصدق وحسن الخلق والنوايا الحسنة. ومن هذا المنطلق يجب اختيار العناصر التى يمكن لها أن تصنع هذا النوع من التوافق. ومن تجربتى السياسية البسيطة أستطيع أن أجزم أن هذا الدور لن تلعبه النخب القديمة المترهلة التى أدخلت الوطن فى أنفاق مظلمة من الصراع والضغينة، إنما يمكن أن تصنع هذا التوافق النخب الشابة التى كانت هى الطليعة الحقيقية فى ثورة يناير المجيدة. هذه النخب تستطيع أن تجلس وتتحاور على اختلاف جذورها غير محملة بأعباء الماضى وصراعاته التى خلفت فى قلوب الكثيرين الأحقاد والكره المانع لأى عمل مشترك. لقد جاء الوقت لتتصدر المشهد وجوه جديدة شابة تملك القدرة والإرادة على التغيير والحوار والبحث عن البدائل وصناعة المشترك، بل ولديها القدرة على التفكير خارج الصندوق من أجل الوصول إلى حلول عملية وواقعية تجنب الوطن ويلات الفرقة فى وقت يحتاج الجميع فيه إلى الوحدة. يمكننا أن نمارس المنافسة التى تثمر للوطن تنوع الأفكار والطاقات والحلول دون أن يتحول هذا التنافس إلى تنازع تضيع فيه الطاقات وتسقط فيه الهمم ولا يبقى لنا إلا اليأس والبكاء على ما فات.
وعلى الجانب الآخر ينبغى ألا يكون التوافق تكتيكا وقتيا عند أى فصيل لكى يصل من خلال الفصيل الآخر إلى مراده وتحقيق أهدافه ثم يتركه إلى غير رجعة. التوافق استراتيجية طويلة المدى وليست صورية قصيرة المدى. التوافق مبدأ قيمى أخلاقى فى المقام الأول قبل أن يكون سياسيا. التوافق إذا لم يكن على أرضية مبادئ لا تتجزأ فلا فائدة منه. فلنبحث عن كل من باع وترك وفتن لنخرجه من حسابات التوافق الذى نريده، ولنبحث عن كل من يجمع ويحترم ويصدق ليكون نواة لمستقبل مشرق على أرضية مشتركة غير خادعة.