على بعض الأوراق يختلط واقعنا بخيالنا، يظن البعض أن الواقع هنا على تلك الأوراق ليس إلا الواقع، هذا ما يقوم به النص، له سطوة عندما يُقرأ فيساء تأويله أنه نحن، ولكن نصوصنا ليست نحن، إنه ما يميز المُبدع عن غيره، تلك الشرارة التي يخلقها فينا الواقع فتنير في العقل مزيدًا من الأحداث، أو فكرة جديدة كليًا عن نهجنا وأفكارنا أو ما نؤمن به ونعتقده، تلك الشرارة الواقعية كفيلة بتفجير الكامن داخل ذلك العقل الهادئ.
منذ سنوات عديدة، قام نجيب محفوظ بتأليف روايته "أفراح القبة"، وتحكي عن مؤلف شاب وهو "عباس" صنع تحفته المسرحية التي أساء الجميع فهمها، في المسرحية قام المؤلف الشاب بتحويل الأحداث بشكل مغاير، فسجن والديه بعد إدارتهما لنادي القمار داخل منزلهما، ووفاة زوجته، والتي كانت أحداثًا سيرها القدر وليس لعباس دخل بها، الواقع حولها في مسرحيته إلى أشياء تدخل فيها هو بالفعل، فكان بطل مسرحيته هو من وشى بأبويه، وكان هو من قتل زوجته.
فقد وضع عباس بطل مسرحيته في موضع "الحلم"، هذا الحلم الذي تمنى سجن أوبيه، والحلم الذي تمنى ولو على استحياء أن يتخلص من حياة المسؤولية التي سببتها زيجته، هذا هو ما يفعله الكاتب، إذ يود أن يصنع هو واقعه بدلًا من أن يصنعه له أحدهم، جعل نفسه هو القدر، هو المُتحكم بتقاليد أموره، أموره التي رُغم عليها بشكل ما، أو حلم بشكل آخر في أن تحدث، حتى لو لم يحلم أن تحدث بتلك الطريقة.
الأمر نفسه الذي واجه عباس، فقد واجه بطلة فيلم "ميستريس أميركا" مؤلفة القصص التي تشق طريقها مثل عباس، تلك الفتاة التي قد التحقت بجامعة، وبدأت في تعلم مبادئ القصة، ثم تحاول أن ترسل قصصها إلى نادي القصة الشهير في كليتها، والذي يرفض قصتها الأولى، ولكنه يقبل الثانية، تلك الثانية التي وضعتها في مشكلات عدة عندما قرأها المحيطون، وظن الجميع أن كل حرف هنا هو الواقع بعينه، فمن أين يمكن أن يأتي الكتاب برأيهم بتلك الأفكار؟، تفسيرهم الفوري هو أنه لا بد أنها كلها هي انطباعاتهم وآرائهم الشخصية.
قد تبدو تلك المشكلة تافهة لدى من لم يجرب الكتابة من قبل، تلك الكتابة التي نقتطع فيها جزءًا من روحنا، لكنها في الوقت نفسه تجعلنا نكتشف عوالم مختلفة تختبئ في عقولنا، أو في مخيلتنا الخصبة نوعًا ما.
نجيب محفوظ نفسه كان سر كتابته الغزيرة، أن كل شخصية التقاها كان يحفظ لها بضع وريقات تصفها، ثم يصنع هو مزيجه الخاص من الشخصيات، بل وصل الأمر لأن يستفيد من شخصيات كتاب يعرفهم، وهو الأمر الذي حدث مع الكاتب سعيد الكفراوي نفسه الذي يحكي دئمًا تلك الحادثة، ولا يجد أي غضاضة في التحويل الذي أحدثه نجيب في تلك الشخصية، بل اعتبره تخليدًا له على يد كاتب كبير، مدركًا أن هناك خط فاصل بين الواقع والخيال، وكأن الكتابة عالمًا آخر موازيًا لا نضع فيه نفس قواعد العالم الحقيقي المعاش، بل ننظر له بعين أخرى تمامًا، عين الأدب التي لا تهتم بالأحداث بقدر ما تهتم وتنصر إلى القيمة الفنية.