في وقت سابق كانوا يتغنون بالجمال، وكنت أظن أن كل جميلٍ يستتبع بالضرورة جميلًا آخر، ولكن نظرة أخرى على الجمال قد تقنعك بأنه مثله مثل أي شيء له هو الآخر جانبه السيئ، الذي قد يصل في بعض الأوقات إلى أن يقتلك!.
يغني ياسين التهامي، "أكاد من فرط الجمال أذوب"، ويكتب عمر الخيام وتغني له أم كلثوم "القلب قد أضناه عشق الجمال"، تلك هي الحالة المركبة التي قد تصبح بداية مفسرة لما قد خطه باتريك زوسكند في روايته الشهيرة "العطر"، داخل تلك الرواية نرى كيف صار الجمال ثيمة أخرى؟.
فبطل الرواية "جان باتيست جرنوي"، أضناه عشق الجمال فعليًا، عشق الروائح الجميلة في مدينة باريس التي لم تكن تحتفي بالروائح في عصورها القديمة.
أنفه الذي التقط مئات الروائح السيئة بدءًا من طفولته قد اشتم عبق الزهور في محل العطور الذي يعمل به، ولكن هناك رائحة أجمل تشد أنفه، إنها رائحة الفتيات الجميلات، رائحة أجسادهن اللاتي لم يستطع جرنوي أن يتحملها، ليحاول أن يحتفظ بها، وهنا تتحول ثيمة الجمال إلى طريق مفضي للهلاك حرفيًا، فكم شخصًا بما يقابل الجمال ولكن لن يعيره حد الاهتمام الكافي؟.
جرنوي أذابه الجمال فجعله يتحول إلى قاتل، ولكنك برغم كل شيء لن تضع جرنوي في مصاف كل القتلة الذين عرفتهم، فمن بين هؤلاء جرنوي يقتل لأنه لم يستطع مواجهة كل هذا الجمال! هذا ليس تبريرًا بالطبع لجرنوي، والذي هو محض شخصية خيالية، ولكن هذا هو الأدب الذي يمكن أن يجعلنا ننظر للأمور بزاوية أخرى تفسر لنا كيف يتغير البشر؟، وما دوافع خياراتهم المجنونة؟.
على جانب آخر، يكتب "أمين ريان" روايته التي سيعرف بها فيما بعد، وستظل لصيقة باسمه "حافة الليل"، والتي فيها يعيش البطل "آدم" أزمة أخرى مع الجمال، ولكن البطل هنا لن يصبح قاتلًا مثل جرنوي، ولكنه سيكتب له الشقاء لأنه عشق الجمال!، آدم هو فنان يدور اهتمامه حول صناعة التماثيل، خلال تلك العملية تقف "أطاطه" بجسدها الممشوق، ليصنع هو التحفة الفنية التي يحاول فيها أن يجعلها تشبه الموديل التي تظهر أمامه، قبل هذا بأعوام ترك الفن لاعتبارات دينية عدة، وبعد العودة واجه أزمة من نوع آخر، فغيره من الفنانين يحتقرون الموديلات العاريات أمامهم، لا سبيل هنا للفرار من أي جماعة.
هناك أزمات وعقبات في كل اتجاه، وآدم الذي أحب الموديل التي يرسمها وأراد زواجها، يواجه مصيرًا سيئًا لاختياره هذا لاعتبارات عدة بين أهل الفن نفسهم الذي ظن بعد حالة اغترابه عنهم لفترة أنهم مختلفون مثله، هذا بطل أضناه عشق الجمال، ومهما ادعى البقية من حبهم لهذا الجمال ومحاولة تقديره فإنهم لم يحبوه بالشكل الكافي، هذا الحب الذي لا يورطنا في النهاية بل يجعل هناك مسافة آمنة بيننا وبين هذا الجمال حيث لا يجعلنا نتورط هذا التورط فيه الذي يحولنا في النهاية لمأسورين لا متحكمين، ولكن من قال إن عشاق الجمال يبغون التحكم في مقاليد الأمور؟.
في فيلم "أميريكان بيوتي" وهو فيلم أمريكي من إخراج سام مينديز، وسيناريو ألان بو، تجلس إحدى الشخصيات الثانوية وهو مراهق يحب ابنة بطل الفيلم، يجلس معها محاولًا أن يشرح لها أفضل مقطع فيديو قد صوره، والصورة التي أمامنا لا تُظهر سوى "كيس" بلاستيكي يتطاير مع الهواء، الكيس يصنع مع أوراق الشجر المتطايرة مشهدًا رائعا للغاية، قد لا يبدو عظيمًا لأي مشاهد، ولكن الشاب المُراهق الذي يقوم بدوره "ويس بنتلي" يبكي وهو يشاهد لقطة الفيديو تلك، مؤكدًا أن قلبه في بعض الأحيان لا يتحمل هذا القدر من الجمال!.