مكمن الخطر وباب الكراهية والانقسام وسبب الصراع الرئيسى بين الجماعات الدينية وبعضها أو بينها وبين الجماعات المدنية أو بين الأفراد ذاتهم هو أن الأولى تفترض مبدئياً وأساساً تدعيه أن ما تقوله أو تكتبه هو الدين بل وصحيح الدين؛ ثم تسعى لفرض ذلك على الناس بالقوة أو بقانون أو بعرف أو بضغط واتهامات وغير ذلك، بينما الدين وحقيقته وصحيحه ليس إلا فى الكتاب المنزل علينا من السماء، وفى أحاديث صحيحة تماماً تقبلها الفطرة السليمة والعقل السليم، ولكى يقل الصراع يجب أن نقر أن قراءة كل شخص أياً من كان للنص المنزل فإن فهمه وشرحه لنا يكون اعتقاده هو ودينه هو، فقهه هو وليس الدين الحقيقى الذى فى الكتاب الكريم ولا يدرك كنهه الحقيقى وجوهره الأصيل إلا الله، ثم النبى الذى كان وحده على اتصال مباشر بالوحى لينقله لنا، بل إنه سبحانه قد أعاد الكرة على رسوله الكريم فى مواقف عدة أشهرها الآية الكريمة (عبس وتولى أن جاءه الأعمى).
قد يتفق ما فهمه الشيخ/الكاتب/الشخص وشرحه لنا من قراءته مع صحيح الدين وحقيقته وربما لا يتفق، ربما اتفق فى بعض وخالف بعضاً أو أنكر بعضاً أو ناقضه، ولكنه فى كل الأحوال يظل اعتقاده وأفكاره، ولذا تتعدد الشروح وتتجدد التفسيرات بمرور الزمن، وتقترب من بعضها أو تتباعد أو تتناقض حسب السياق الثقافى، فاللفظ الواحد مثلاً قد يتغير معناه ودلالاته من زمن لزمن، ومن مكان لمكان، ومع ظهور وتتابع حقائق علمية وإنسانية جديدة كل يوم يصير من الصعوبة القبول بتفسيرات سابقة تخالف الحقائق الجديدة، لأن هذا من دواعى إثارة البلبلة والشك وخلخلة الاعتقاد فى نفوس الذين يثقون بالدين كما يقدم لهم، والذين يثقون بالعلم، ولكنهم اليوم ما زالوا يحدثوننا عمن قال وعمن فعل منذ مئات السنين، من يجزم أو ينفى الاتفاق بين حقيقة الدين كما هو وصحيحه كما أراد الله تعالى، وبين الذين يقدمون للناس الفهم والشرح والتفسير على أنه صحيح الدين وحقيقته؟ الحقيقة لا أحد غير قلب الإنسان السليم، وربما كان واحد هو الأفهم والأعلم بالحق ولم يكن الإجماع، حيث إن الإجماع اختراع بشرى والأفكار التى صارت إجماعاً كانت من عنديات واحد قبل المجمعين، حتى النبى لم يكن أعلم تماماً بالمراد وروجع، إن هذه الإشكالية والمعارك ستظل مفتوحة أمام المسلمين إلى يوم الدين طالما لم تقرر الناس أنها تحدثنا عن اعتقادها وتفسيرها ورؤاها وفهمها للنصوص لا عن الدين حتى فى هذا المنقول بالقول أو الفعل أو الكتابة، فقد يكون أو لا يكون هو صحيح الدين لأنه لم يكتب بمعزل عن الواقع التاريخى والسياسى والثقافى.
خلط ما هو إنسانى وقراءات لنصوص مقدسة بما هو إلهى ربما كان غير مقصود عند بعضهم من المشايخ والفقهاء والقراء الأكثر أمانة ووعياً ومصداقية، ولكن التمييز فى الواقع العملى وعند طرح المسألة على مائدة البحث النظرى أمر يخلق إشكاليات تنتج وتفرض هذا اللبس الذى يُطالَب الناس باتباعه ثم يتبعه معارك وحروب على وهم أنه الدين.
الإلهى يعنى الشريعة أى التوحيد والانقياد لإله واحد، الشريعة تعنى الأحكام التعبدية التى يقوم بها الدين، وهى كاملة لا تقبل الإضافة طالما أنها تختص بالعقيدة والعبادات ولكن الغزالى وجد أن هذا «الشرع أى الإلهى أطلق فى غير العبادات مراعاة للظرف والمصلحة».
أى إن الثابت (الإلهى) انطلق فى المتغير (الدنيا)! بمصالح ومشاكل وعلاقات دنيوية متبدلة، ونتصور أن هذا التداخل هو سر الخلل النظرى الذى ما زال ينتج التخلف الحياتى على مدار قرون.
تناقض المفكرون الإسلاميون أنفسهم حول سلطة الشرع والفقه وحدودهما، ففى حين يرى بعضهم كعمارة أنه لا يمكن للمسلم المؤمن بدينه أن يعطى سلطة التشريع ووصف الشارع لغير الله، فإن غيرهم كالشاطبى يؤكد جواز إطلاق لفظ الشارع على المفتى، باعتباره قائم مقام فى إنشاء الأحكام.
الاجتهاد البشرى فى تفسير وتأويل وشرح وتأريخ النص القرآنى يتغير وفقاً للمكان وللزمان وللمصلحة ولموازين القوى والصراع وللنسق الثقافى القائم، وهو أمر لا بد أن يصطدم، كعقل بشرى متغير وكفقه، مع الثابت الإلهى كشريعة، حتى وإن حاول الأول عدم الاصطدام، والتحاشى والتجنب، واختلاق حدود والبعد عن الشبهات.