الكوربة.. واحة على الطراز البلجيكى
ميدان ذو طبيعة خاصة، يتميز بشكله المثلث، ترقد على أضلاعه الثلاثة بنايات ضخمة، صممت بهندسة معمارية فريدة من نوعها، على يد البلجيكى البارون إدوار إمبان، من هذا الميدان كانت بداية مصر الجديدة، ذات البواكى التاريخية التى يشتهر بها ميدان الكوربة، ويرجع تسميته بهذا الاسم إلى استدارة الشارع على غير عادة الشوارع فى ذلك الوقت، والكلمة تعنى بالإيطالية الانحناءة أو القوس.
فى أحد أروقة الميدان وتحت أسفل بواكيه التى يتجاوز عمرها المائة عام، يجلس عم حسنى، ثمانينى العمر، واضعاً ساقاً فوق أخرى، تتقاسم ملامح وجهه السمراء التى تكسوها التجاعيد، عبق الزمان الجميل مع جدران المكان، الذى قضى فيه نصف عمره الذى قدره بـ40 عاماً، ويتباهى بائع الجرائد، الذى اغتال البياض سواد شعره، بوجوده فى الميدان من «أيام جورج» على حد تعبيره، فى الإشارة إلى الاحتلال الإنجليزى الذى كان موجوداً فى مصر قبل أكثر ستين عاماً.
يحكى الرجل الثمانينى عن أيامه الأولى فى الكوربة قائلاً «جنود الاحتلال الإنجليزى كانوا يتدربون فى شارع الأهرامات كل يوم الصبح»، موضحاً أن العديد من الضباط الإنجليز كانوا يقيمون فى الكوربة، مسئولين عن الأمن فى الميدان، فى أحد الأيام قاموا بالقبض على واحد يهودى كان يقيم عنده جاسوس ألمانى، وقاموا بضربه فى الشارع أمام جميع أهالى المنطقة، قبل الخروج به من الميدان.[Image_2]
بابتسامة صافية كشفت عن فم خالٍ من الأسنان، يتحدث العجوز، يشير إلى الميدان قبل أن يقول «أنا هنا من أيام التروماى أبوسنجة»، تغير شكل الميدان ولم يعد الترام كما كان، كما يؤكد العجوز، بسبابته يشير إلى محل مجاور لفرشته التى يبيع فيها بضاعته المتمثلة فى الجرائد والمجلات «المحل ده كان بتاع طرابيش واللى جنبه كان صاحبه يهودى، وحلوانى شانتيى، كان أصحابه شوام اشتروه من عيلة أدجيميان الأرمنية، ودلوقت هو تبع شركة تشتريه سويس أوتيل».
«الناس هنا كلها محترمة، كل واحد منهم فى حاله، على عكس زمان»، يتحدث البائع العجوز عن طبيعة سكان المنطقة قديماً فيقول إنهم كانوا مترابطين للغاية، رغم الاختلافات التى كانت موجودة بينهم، وبحكم مهنته أتيحت له فرصة مراقبتهم عن قرب «زمان كنا بنسرح بالجرايد فى الميدان والشوارع اللى جنبه، لكن الحال تغير دلوقت ليّا مكان مخصوص تحت البواكى، ومش باتحرك منه».
من موقعه الجديد يستطيع العجوز أن يراقب الميدان، يدفعه سنه المرتفع إلى الاعتماد على ابنه الشاب، الذى يستقى معلوماته عن المكان من والده كما يروى، فيقول «المبانى هنا من قديم الأزل، وبعض السكان بيدفعوا 5 جنيه بس إيجار شقة، وكلهم بيورثوا الشقق من جدودهم».
يرى عم حسنى أن بيع الجرائد «دلوقتى أفضل من أيام زمان»، التى كانت يقتصر فيها بيع الجرائد على الأهرام والأخبار والمصرى وإحدى الصحف الأجنبية التى لم يتذكر اسمها، ثم جريدة الجمهورية التى صدرت بعد الثورة، أما الآن فـ«كل يوم بيطلع جرنال جديد».
«الثورة بعد عبدالناصر مفيش» هكذا جاء رأى بائع الجرائد القابع فى ميدان الكوربة، فى الوقت الذى غابت عنه فيه فعاليات ثورة يناير، مشيراً إلى أنه لا يعترف بها، وبابتسامته الهادئة يتذكر بائع الجرائد مرور الرئيس عبدالناصر من الميدان أثناء ذهابه إلى الإدارة المركزية للقوات المسلحة، عندما تحدث معه وسلم عليه، الآن يشاهد موكب الرئيس مرسى عندما يمر من أمامه، يقول إن موكبه يتجاوز الـ20 سيارة، ويتمنى له العون من الله، للعبور بمصر إلى بر الأمان.
ورغم أن الميدان كان يضم العديد من الطوائف الدينية المختلفة سواء اليهود أو الأرمن، لكنه يبقى شاهداً على التعايش السلمى بين المصريين القابعين فى المكان سواء كانوا من المسلمين أو الأقباط أو من الطوائف المندثرة من الأرمن واليهود، فما زالت نجمة داود ترقد على بواكى آخر شارع الكوربة، هو ما عبر عنه العجوز الطاعن فى السن على مدار 40 عاماً بقوله «عمر ما حدثت مشكلة أو أزمة بين المسلمين أو الأقباط أو اليهود» موضحاً أن جميع المشكلات التى كانت تحدث فريدة ولا يقترب فيها أحد من الدين.
أخبار متعلقة:
«مصر» التى كانت «جديدة»
عمارات الحي الهادئ "علي كل لون"..هندي ومغربي وأوروبي
بيت «جمال عبدالناصر»في منشية البكري.. حلم المتحف الذى لم يكتمل
مترو مصر الجديدة.. «زقزوقة» لأصحاب المزاج وطلبة المدارس
الثورة فى زيارة خاصة لـ«مصر الجديدة» والفضل لـ«مرسى»
"اللي بني الحي كان في الأصل بارون"
فى رسالة ماجستير عن «الضاحية البعيدة»: سكانها يركبون العجل ويتنزهون فى «جروبى» و«أمفتريون»
حديقة «الميرلاند» التى تحولت لأطلال تحتضن العشاق
من «الشهبانو» إلى «الحسين بن طلال».. ميدان «تريومف» يتحدى الحكومة