العاملون: «المعلمين هياخدوا التعويض واحنا هنترمى فى الشارع»
محمد مسعد يتحدث لـ«الوطن»
فى شوارع ضاقت على أهلها، ارتفع صخبٌ تعوّد عليه أصحابه، ففى الخارج، حيث العربات «الكارو» التى لا تهدأ طيلة اليوم جيئة وذهاباً، كان عمال واقفين فى مجموعات أسفل أكواخهم الصغيرة، المسقوفة بألواح من الخشب البالى، الذى لم يمنع أشعة الشمس من الوصول إليهم، يرفعون أياديهم إلى أعلى، ليهووا بمطارقهم الصغيرة على رؤوس «مساميرهم» المنغرسة فى أطراف جلود الماشية أمامهم، لتثبيتها على قطع من الخشب مستطيلة الشكل، فتكون مهيأة للشد.
«عادل»: «مشكلتنا أكبر من مشاكل التعويضات ومش هقول غير حسبى الله ونعم الوكيل».. و «عمرو»: «ولادنا هيطلعوا تجار مخدرات بعد ما المكان اللى اتولدوا فيه يتنقل»
«هما جم حلوا مشاكل المدابغ ومشاكل المعلمين أصحاب المدابغ، ونسيوا خالص إن فيه هنا عمال بتعيش اليوم بيومه وبيوتها هتتخرب، واحنا مفيش فى إيدينا حاجة نعملها غير إننا نقول حسبنا الله ونعم الوكيل»، كلمات قالها «عادل أحمد»، الرجل الخمسينى، وأحد عمال هذه الورش الصغيرة لشد الجلد، يشكو بها حاله، ومستقبل أطفاله الذى بات مظلماً فى عينيه، «أنا عندى 5 عيال مش عارف هصرف عليهم منين بعد كده، ومفيش حد جه سأل فى الصنايعى اللى هيتشرد ده وقال له انت هتعمل إيه الفترة الجاية ولا وضعك هيكون إيه، بالرغم إن مشكلتنا أكبر من مشاكل التعويضات ومشاكل أصحاب المدابغ مع الحكومة بكتير، إحنا اللى مش عارفين هنصرف على عيالنا منين، ولا عارفين عيالنا حتى اللى سابوا المدارس وبيشتغلوا معانا دول هيعملوا إيه بعد ما علمناهم الصنعة ومابقوش يعرفوا يشتغلوا حاجة تانية غيرها، لأنها الصنعة اللى اتولدوا فيها».
محمود: «هى البلد ناقصة بطالة علشان يتشرد عمال المدابغ ومش عارف بعد العمر ده هشتغل فين لما المدبغة تقفل؟»
يشرح «عادل» طبيعة عمله القائم فى أساسه على المدابغ متوسطة الإنتاج، مشيراً إلى أن معظم أصحابها لن ينتقلوا إلى الروبيكى، وإنما سيأخذون تعويضات مادية، ومن ثم انقراض مهنته: «المدابغ الصغيرة بتجيب لنا الجلد وإحنا نشده، وطبعاً الشغلانة دى ماتنفعش مع المدابغ الكبيرة، يعنى حتى لو فكرنا فى الروبيكى مش هيكون لينا مكان هناك، لأن اللى هيروح هناك المعلمين الكبار اللى بيشتغلوا تصدير، إنما الناس اللى إحنا شغالين معاهم بقالنا 20 سنة هييجوا فى الآخر ويرضوا بالتعويض، ويروح بقا يفتح أى مشروع تانى بالفلوس اللى خدها، وبمجرد ما يصرف الشيك ومدبغته تتهد، أنا اللى هترمى فى الشارع بعد كده، خاصة إنى مش متأمّن عليا».
تبدّت على ملامح «عادل» آيات الغضب، فظهرت عروق رقبته جلية، وأدخل يده فى جيبه، لتخرج ممسكة ببطانة الجيب البالية، وقد انقبضت أصابعه على بضعة جنيهات معدنية، يضعها على المنضدة الخشبية من أمامه، مقسماً على أنه لا يملك لبيته غيرها، ليكمل حديثه بصوت أعياه اليأس قائلاً: «أنا مصرى ومتهان فى بلدى من يوم ما اتولدت، وحتى لقمة عيشى هتتقطع بعد ما خدت عمرى كله، ولو مصر بعد اللى حصل ده هتضرب بالنووى أنا مش هزعل، بالعكس دانا بقيت أدعى ربنا بكده من كتر الغلب اللى أنا عايش فيه، والظلم فى ظلم اللى الواحد بقا شايفه، سواء من الحكومة ولا من المعلمين ولا من الناس العادية حتى».
وفى واحدة أخرى من الورش وقف «عمرو عطية»، رجل ستينى، غطت التجاعيد كامل وجهه المائل إلى السمرة، ليبدأ حديثه بصوته الأجش وهو يشير بسبابته إلى عمال ورشته المنهمكين فى عملهم، قائلاً: «هما كده بيعلّموا الناس دى إزاى يبقوا مجرمين وإزاى يبقوا صّيع، وأطفالنا الصغيرين اللى كنا بناخدهم معانا الشغل ونبعدهم عن الكلام ده كله، مش هيكون قدامهم غير إنهم يطلعوا تجار مخدرات، لأنهم مالهمش مكان تانى يروحوا ليه بعد ما المكان اللى اتولدوا فيه والشغلانة اللى مايعرفوش غيرها اتهدت على دماغهم، وهيكون طريق الإجرام هو أسهل طريق ليهم».
يقف «عمرو» بين عماله حائراً، لا يدرى ما يخبئه له القدر فى الأيام المقبلة، وإن كان لا يتمنى كثيراً، فهو لا يطمع فى أكثر من أن تستمر «عشته» الصغيرة مصدراً لرزقه، يقول «عمرو»: «المدابغ دى لما تتنقل اللى زينا هيشوفوا لهم تربة يدفنوا نفسهم فيها هما وعيالهم، رغم إن كل اللى نملكه هنا عشة من الخشب بنعمل شغلنا فيها، استلفنا فلوس عشان نشترى الخشب بتاعها، وكل ما نتكلم مع المعلمين الكبار يقولوا لنا متخافوش إحنا هنريحكم، ومفيش أى حاجة بتتعمل، وحتى الراجل المسئول عن نقل المدابغ لما اتكلمت معاه وسألته عن موقف اللى زينا وهل هيودونا هناك ناخد حتى مكان صغير زى اللى إحنا واقفين فيه ده ناكل فيه عيش ولا لأ، قال لى لأ انت مالكش مكان هناك لأنك فى الشارع وإحنا بنشوف الناس اللى ليها مدابغ مرخصة».
يضيف «عمرو»: «البلد دى طول عمرها ماشية عكس، والصنايعية الغلابة والمساكين اللى هدومهم مقطعة زيينا هما اللى بيروحوا فى الرجلين، بالرغم إن الصنايعى ده لو ماعرفش يعيش عيشة محترمة ممكن يرتكب جرايم، لأنه مستعد يعمل أى حاجة عشان يأكّل عياله، وأصحاب المدابغ دول كلهم وارثين مدابغهم عن جدودهم، إنما إحنا وارثين الفقر والذل، ورغم كده راضيين وحامدين ربنا، لكن الدولة بقى هىّ للى مش راضية وعايزة تزود فقرنا أكتر».
ولم يختلف الوضع كثيراً داخل المدابغ التى قبل أصحابها بالتعويض بدلاً عن الانتقال إلى الروبيكى، فقد امتلأت هذه المدابغ بعمالها الذين التفوا حول الماكينات الضخمة بأصواتها المرتفعة، وفى واحدة من هذه المدابغ وقف «محمود مسعد»، يتلقى الجلود من زميله ليضعها متراصة فوق بعضها على منضدة حديدية أمامه: «إحنا راميين حملنا على الله، هو وحده اللى عالم بينا وعالم بالناس اللى زى حالتنا، وربنا عمره ما بينسى حد، بس طبعاً إحنا بشر مش ملايكة، وكل يوم الصبح الواحد يبص لعياله ويفكر إيه اللى ممكن يحصل بعد كده والأيام الجاية شكلها هيكون عامل ازاى»، يقولها «محمود» صاحب الـ35 عاماً، وقد قضى فى هذه المهنة من عمره قرابة العشرين عاماً، ليكمل حديثه قائلاً: «مش عارف بصراحة بعد العمر ده كله فى الشغلانة هعمل إيه لما المدبغة اللى أنا فيها تقفل، وطريق الحلال لما يتقفل مش هيكون قدامنا غير سكة الحرام والبلطجة، نسرق بقى ولا نبيع برشام وحشيش». ويضيف «محمود»: «المدابغ دى فيها عمال وصنايعية كتير جداً، وأقل من ربع الناس دى بس هما اللى هيروحوا الروبيكى مع المدابغ اللى هتنقل، لأن كل مدبغة ليها العمال بتوعها، وبالنسبة للمدبغة اللى إحنا شغالين فيها، أصحابها رافضين يروحوا الروبيكى، وده مش حالنا إحنا بس، ده حال ناس كتير جداً هنا، وطظ بقى فى العمال الضحايا اللى هيموتوا بعد كده عشان الناس الكبيرة ترتاح»، متابعاً: «أنا نفسى أسأل سؤال يجاوبنى عليه حد: هيا البلد ناقصة بطالة عشان تشرد العمال دى كلها؟! المفروض إن هما قبل ما يقولوا هننقل المدابغ يفكروا فى العمال اللى مالهمش تأمين دول ولا ليهم مصادر رزق تانية غير هنا، بس للأسف لما بنتكلم محدش بيسمع لنا».
وعلى يسار طريق الخروج من المدابغ، جلست «أرزاق أحمد» داخل محلها الخشبى، تبيع فيه الطعام لعمال المدابغ، حيث لم يختلف حالها عن غيرها من العمال الذين ينظرون إلى المستقبل القريب بعين اليأس والإحباط، تقول: «أنا مبعرفش أخرج من المكان هنا أروح مكان أى تانى، وجوزى راجل أرزقى لو ماشتغلتش عشان أساعده مش هنعرف نعيش، وبصراحة اللى بيحصل ده خراب بيوت للكل». لم يكن لـ«أرزاق» من الآمال سوى عمل تساعد به زوجها فى توفير نفقات بيتهما الصغير، وهو ما شغل بالها بشدة فى الآونة الأخيرة: «مش هيكون قدامى بعد كده غير الشغل فى البيوت، اللى هيا أصلاً مابقتش أمان اليومين دول، بس هعمل إيه، ما باليد حيلة».