اختار الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، أثناء ترشحه للانتخابات الرئاسية، وبعد انتخابه رئيساً، أن يكون له ظهير شعبى، وليس ظهيراً حزبياً، ربما تفادياً لعقدة المصريين من تجربة «الحزب الوطنى» واستحواذه على السلطة، وما استتبع ذلك من فساد سياسى واقتصادى.
ورغم ذلك، اعتبر البعض أن قائمة ائتلاف «فى حب مصر» التى حازت على الأغلبية فى «مجلس النواب»، هى الظهير السياسى للرئيس، التى ضمنت الموافقة على تشكيل الحكومة وتعديلها، تحت لافتة «ائتلاف دعم مصر»، وكذلك على العديد من القوانين المقدمة من جانب الحكومة، التى كان آخرها اتفاقية «تيران وصنافير».
وبالتالى أصبح مشهد الانتخابات الرئاسية المقبلة ضبابياً إلى حد كبير، فالأحزاب السياسية التى يفترض فيها أن تقدم الكوادر المؤهلة للقيادة أصبحت «أحزاباً كرتونية».. رؤساء الأحزاب أغلبهم يدورون فى فلك الرئيس، ومقار الأحزاب معتمة، وجرائدها أشبه بالجرائد القومية، وكأنها اختارت «طواعية» الاعتراف بعدم قدرتها على «المنافسة» أو «المعارضة».. واختارت الجلوس فى مقاعد المتفرجين تصفق للنظام فى معاركه الخارجية، وتندب مثل «الولايا» فى أزمة الغلاء دون تقديم روشتة لتجاوز آثار خطوات الإصلاح الاقتصادى.
حتى حزب «نجيب ساويرس» -سابقاً- الذى تصدر ماراثون الانتخابات البرلمانية، دخل نفق الانفجارات الداخلية، فلم يتبق من رائحة الحياة الحزبية سوى صور ملتحية للأحزاب الدينية، التى تتعامل مع النظام بانتهازية «المهربين» الذين يخشون لحظة القبض عليهم!.
هل يمكن أن نحمل الرئيس «السيسى» مسئولية هذا المناخ الانهزامى؟.. أو أن يدعى أحد أن «حزب الرئيس» التهم الحياة الحزبية؟.
الحقيقة أن الحياة الحزبية دونت شهادة وفاتها حين حكم «الإخوان» مصر، وحين جاء «البرادعى» وتابعه «عصام حجى» لتطبيق سيناريو تفتيت مصر المعد مسبقاً فى «البنتاجون».. وفى أكثر من موقف كان الواقع يتجاوز قدرات من نصّبوا أنفسهم «زعماء»، فلا يجد الشعب أرضاً صلبة يقف عليها إلا التى رسّخها نظام «30 يونيو».
فى معظم المواقف المفصلية، ستجد «السيسى» يتوجه بخطابه للشعب مباشرة، وكأنه -ضمنياً- لا يجد من يمثله تمثيلاً حقيقياً، يخاطب الشباب.. النساء.. المهمشين والأكثر احتياجاً.. إلخ جموع الشعب التى يعتبرها ظهيره الحقيقى.. أو كما يفضل أن يقول: (لى.. ولمصر فى كل بيت سند).
فى ظل ما يمكن تسميته حالة «السيولة السياسية»، التى تعانق فيها المعارضة النظام، وتتحالف معه فى معظم مواقفه، هل يمكن أن نطرح الحديث عن ضرورة وجود ضمانات فعلية للتغير السلمى للسلطة، وهى تلك المطالب المطروحة فى «العالم الافتراضى» من «عصام حجى»؟.
يراهن «حجى» على تشكيل ما سماه بـ«فريق رئاسى»، والذى يتشكل من القوى المدنية ويدعم مرشحاً رئاسياً واحداً، وهى مهمة خيالية، لعدم وجود «قوى مدنية» فاعلة على الأرض أصلاً، وإن وجدت فإنها تحمل عوامل تشرذمها وفنائها.
المأزق الحقيقى فى الانتخابات الرئاسية المقبلة هو عدم ظهور «الحصان الأسود»، الذى يحظى بثقة الرأى العام، فهل يتخيل «حجى» أنه سيكرر لعب دور «المخلص»، الذى فشل فيه «البرادعى».. أو أن الأسماء المطروحة حتى الآن -دون تجريح- ترقى لحكم البلاد؟.
لم يعد الحكم بين المتنافسين هو «البرنامج الرئاسى»، لأن الشعب قد اختبر برامج «السيسى» وإنجازاته، وأصدر حكماً على منهجه فى إدارة البلاد سواء بالاتفاق أو بالاختلاف حول سياساته.. وربما هذا ما يفسر حالة الركود وعدم الحماس لمواجهة «السيسى» فى رهان تحسمه أصوات الشعب.
أما الحديث عن شيطنة المعارضة ورموز العمل السياسى (رغم انعدامها)، وما يتردد عن حملات الاعتقالات، فالأسر المصرية تعرف يقيناً أن «السيسى» هو من شكل وتابع لجنة رئاسية للإفراج عن المعتقلين من الشباب الذين لم يتورطوا فى العنف.
الصورة أعقد من الحديث عن إنهاء «حالة الطوارئ»، وإجراء الانتخابات فيما يشبه الفوضى، فلدينا مشاكل أكثر قسوة من رفاهية النقد من العاصمة الأمريكية. هناك حالة «احتقان قبطى» بعد كل ما عاناه الأقباط من أحداث إرهابية، وهو ما نسميه «فاتورة تأييد ثورة 30 يونيو».. وحتى الآن لم تفلح الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها فى تحقيق العدالة والأمان للأقباط، وهذا هو المأزق الثانى الذى يواجهه النظام بعد غياب «المنافس القوى».
المأزق الثالث هو تآكل «الدولة المدنية»، فإن كنت بدأت بانهيار الحياة الحزبية، أضف إليها تحول معظم المنظمات الحقوقية إلى كيانات مشبوهة، وهيمنة الأزهر على «المناخ الثقافى» وتراجع دور الثقافة بمعناها الأشمل، وانعدام «القيادات الفكرية» التى تقود عملية التغيير أو احتجابها.. لنصبح أمام «معسكرات دينية» تعتبر الديمقراطية -نفسها- كفراً.. فكيف نخلق وعياً مجتمعياً بأهمية الانتخابات الرئاسية؟.
الدولة المدنية بحاجة إلى «نجوم»، وهو تعبير أدق من «رموز»، لأنه يرتبط بالمصداقية والاستقلالية التامة عن النظام، والارتباط بالناس.. نجوم فى الفكر والفن والإعلام والسياسة والعلم، لا يلعبون دور «المهرج» أو يتحولون لأدوات فى يد الرئيس.. مهمة هؤلاء تشكيل الوعى لتفعيل «الصوت الانتخابى».. سواء بالتأييد أو المعارضة.