كيف تنتزع السعادة من قلب الغيوم المظلمة، وترسم على السماء اسماً وعلماً ونصراً، وتحفر فى ذاكرة العالم نهراً وهرماً مختوماً باسم «الفراعنة»، هرم لا يشبه تلك القصور التى شيدناها ونحن صغار من رمال الشاطئ.. إنه بصلابة إرادة المصريين وعزيمتهم.. بعبقرية شعب قادر على تحويل هزائمه الصغيرة إلى انتصارات يباهى بها العالم.. شعب يحترف «صناعة البهجة».. مهما كانت الحياة ضنينة أو كانت أحلامه مؤجلة.
شاب مصرى من متحدى الإعاقة، يجلس ومعه عكازان ليتابع مباراة مصر والكونغو، مثل ملايين المصريين تتسابق دقات قلبه ويرتفع الأدرينالين فى دمه ويشتعل جسده بالحماس، يحرك الكرة بمخيلته (يباصى ويرقص ويشوط ويصد).. وفى اللحظة الحاسمة من مباراة مصر والكونغو، عندما أحرز «محمد صلاح» الهدف الثانى، معلناً فوز مصر وتأهل المنتخب الوطنى لكأس العالم 2018.. يترك الشاب محبسه الإجبارى.. ليرقص على يديه مرة وبدون عكاز مرة أخرى!!.
مشهد يلخص مصطلح «المعجزة».. والمعجزة ليست فى الرقص بساق واحدة، بل فى تجاوز كل الانكسارات وفقد إحدى الساقين للتعبير عن «حالة خاصة» جمعت قلوب المصريين وعقولهم.. ليراهنوا على «الفوز» حتى لو كان مجرد الذهاب إلى «روسيا» والمشاركة بكأس العالم بعد غيابه عن الظهور فى المحفل العالمى منذ كأس العالم 1990 فى إيطاليا.
الصورة التى هزت قلوب الملايين، ودعوات الشفاء لصاحبها، أشعلت مواقع التواصل الاجتماعى، وتحولت إلى رمز لإرادة المصريين.. وأعلن اتحاد الكرة، عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، موافقة الاتحاد الدولى لكرة القدم «فيفا» على اعتماد الصورة الخاصة بهذا المشجع المصرى من متحدى الإعاقة، أثناء احتفاله بتأهل مصر للمونديال، كتجسيد بأن كرة القدم هى أداة للأمل والإرادة.
لقد أعلن الرئيس «عبدالفتاح السيسى» أن عام 2018 سوف يكون عاماً لذوى الاحتياجات الخاصة، وهذا هو «محمود عبدالعظيم» شاب مثل ملايين الشباب يحمل مؤهلاً عالياً، لكنه لم يخجل من العمل فى محل ملابس مقابل 1600 جنيه.. ولم يفكر بمنطق «العاجز»، بل فكر مثل طائر تكسر أحد جناحيه فقرر الحياة على الأرض بواقعية شديدة.
«محمود» كان عائداً من الحضانة بمدينة السلام، فدهست ساقه عربة نقل كبيرة، عاد بعدها والرغبة فى لعب كرة القدم تتملكه، فكان يلعب مع الصبية بعكازه، وفى المباريات التى يلعب فيها النادى الأهلى يحتل الصفوف الأولى للمقاعد مشاهداً، أو جالساً داخل الاستاد، وفى الوقت نفسه أنهى دراسته بكلية الحقوق بجامعة عين شمس.
إنه واحد ممن يتقنون «فن التحدى»، ويعلم أن له على هذا البلد حقوقاً يطالب بها.. فيقول فى حواره لجريدة «الوطن»: «أنا بس نفسى الرئيس يشوف لى شغلانة، أنا خريج حقوق من 6 سنين، ولو حد اتبرع لأبويا وأمى برحلة حج ولا عمرة هبقى أسعد إنسان فى الكون».
وانهالت التبرعات على «محمود»، لقد تحول إلى «أيقونة للتحدى»، فتبرع أحد السعوديين بتكاليف سفره إلى روسيا 2018 مع المنتخب المصرى، إضافة إلى التكفل بتذاكر حضوره مباريات المنتخب وتكاليف الإقامة.
ثم أعلنت فتاة عبر مواقع التواصل الاجتماعى تبرعها بطرف صناعى للشاب الذى أبهر الجماهير برقصه على قدم واحدة.
والحقيقة أن منطق «التبرعات» يبدو مزعجاً أحياناً، فمثلما تحركت «الفيفا» كان لا بد أن تتحرك وزارتا «التضامن الاجتماعى، والشباب والرياضة»، وأن توفر الدولة لهذا الشاب وظيفة لائقة.. لأنه يستحق أن نحفظ له كرامته.
«محمود» برقصته المبهجة والمؤلمة فجّر إهمال الدولة لذوى الاحتياجات الخاصة، ممن لا تتوافر لهم وظائف لائقة، ولا تتوافر لهم سيارات خاصة بالمعاقين، ولا تخصص لهم أماكن للصعود والهبوط فى كل مكان!
«متحدو الإعاقة».. وجع فى قلب الوطن سوف يظل يؤلمنا حتى فى عز الفرح!.