بالجهة الشرقية للمسجد الأقصى كان الاختيار.. تقدم فى ثبات متأبطاً سجادة صلاة برائحة عطرتها له ابنته كعادة قديمة توارثتها من الجدة الكبيرة.. عندما كانت تعصر الريحان من حديقة بيتهم الكبير.. حيث طلة الشرفات على المسجد الأقصى.. فكانت جلساتها المفضلة وحكايات مواسم الحصاد وجمع الزيتون.. ولمة الجيران والأحباب والخلان وبركة الجوار والإنصات لخطوات الملائكة المسموعة فى ليالى المدينة القديمة تداعب رشرشات ضى القمر على طرقاتها العتيقة.. وماتت الجدة وحزن البيت وذبل الريحان.. وظلت الحديقة تشتاق قطوفها للمسة الأحباب ومزلاج قديم يعصى على سواها ليفتح الأبواب.
حاول الجنود إيقافه لكنهم لم يستطيعوا وكأنهم غير حقيقيين اخترقهم فى هدوء بخطوات ذات هيبة ووقار.. خطت الحياة والسنين لمساتها على ما تبقى من ابتساماته وملامح وجهه المضىء دائماً بما تيسر من آيات الله، وقد حفظها عن ظهر قلب وهو لا يزال طفلاً يركض فى شوارع المدينة القديمة حيث التاريخ يطل من كل الحارات والبنايات.. رفض الرحيل رغم كل المغريات.. كيف له وقد أودع بيده فلذات كبده الثلاث هنا ثرى أرض الرسالات.. زحف الشيب مع الأيام التى لا تكل الإنصات لندائه اليومى يتهادى من مآذن المسجد العتيق الأربع.. يقترب المريدون يتسابقون لنيل بركة القرب والدعاء فقد كان صوته الشجى هو رسالة إلى الأرض من السماء.. يتهادى مع نسمات كل فجر جديد صوته الرخيم ليرفرف السلام على مدينة السلام.. تشبث بموضع صلاته التى طالما كان يجلس فيه يولج من باب الأسباط أو كما يكنونه دائماً باب (ستى مريم) تيمناً بكنيسة العذراء البتول المتاخمة بالجوار.. وبعد أن أغلقوا الأبواب اختار الجلوس على الأعتاب، وبعد أن أخرسوا الأذان ظل يكرره مع أجراس الكنيسة التى أصبحت تدق معلنة موعد الصلاة.. توضأ فأحسن الوضوء واستجمع سنينه الكثيرة وألقاها على أعتاب أولى القبلتين.. شوقاً لنداء الملائكة فى السماء.. فقبة الأقصى صمتت بناء على أوامر بنى خيبر.. أبراج الكنائس تبدو أكثر حزناً.. أجراسها.. ترانيمها تنعى رفيق الأيام.. تحن لمعانقة لا تجدها إلا فى أرض السلام.. أورشليم.. أطال السجود ليلمح من بعيد جيوش السلام بلا سلاح ولا صياح فقط جنود أشداء يرتدون أبيض الثياب يتقدمون بالملايين فى صمت مهيب تتلاشى أمامهم كل السدود يقتربون أكثر وأكثر.. تهتز الأرض إجلالاً واحتراماً.. يرتفع الغطاء.. يرى الملامح بوضوح.. فيهم من يشبهون أبناءه الشباب نفس الملامح والإصرار والعناد.. يغشون كل الأشياء ليتلاشى الأعداء.. طالت السجدة كثيراً.. كثيراً.. فقد كانت السجدة الأخيرة.. وجاء الموعد قبل أن تتحقق الأحلام.. ويعود الحق والسلام لمدينة السلام.. ويفتح المسجد أبوابه لكل البشر.. ويعود الأذان.. رحل وما زالت مفاتيح المسجد العتيق بيد داعرى كل زمان قتلة الأنبياء.
تبكى المدينة.. أبوابها.. مآذنها.. الطيور المهاجرة فى رحلة العودة إلى الشمال.. كرمات العنب المنتظر.. زيت الزيتون وقد أبى أن يضىء السراج القديم.. حتى زهور اللوز فى تشرين التى لم نرها وتخيلناها بأبهى صورة من بين سطور كلمات الشعراء والمحبين.. وطفل منتظر بالثوب الأبيض الجديد.. يرنو من نافذة الأيام.. متشبث بسبحة الجد فى انتظار نداء لن يأتى.. ولم يعد بالإمكان.. وجهى منك فى التراب يا سيدى لقد ضيعنا السفهاء.. أضاعوا ميراث الشرف فى التناحر والتباغض والانقسام.. اختلفوا على كل شىء وأى شىء من الصلاة على الأنبياء إلى طول الرداء.. فأين حمرة الخجل.. أين هؤلاء المدعون الصارخون.. الجهاديون قتلة الساجدين فى سيناء.. أين الحازمون المتبولون فى الطرقات متوعدو وسائل الإعلام.. إن نداء الله فى الأرض يخرص وأنتم لا تنطقون.. القدس أولى القبلتين نتركها ليدخل عليها زناة كل زمان.. نرهن شرفنا وأمانة فى أعناقنا مقابل التسابق على مقاعد الحكام.. والتماس صداقة الذئاب المتشدقين بحقوق الإنسان ومن أنيابهم تقطر دماء أبنائنا فى كل مكان.. أين الزاحفون للقدس بالملايين.. أين المتسابقون لتفجير أنفسهم بحماقة بحثاً عن حور العين.. أجبارون علينا خوارون أمام الأعداء.. أين الرجال.. أين المسلمون.. أين أحباء رسول الله.. أين من فاضت دموعه شوقاً إليهم.. إذا صمت صوت الله فى الأرض فليصمت كل شىء.. وللحديث بقية.