«مراية» الحب عمياء، والمصرى عندما يحب يصبح «أعمى حجر» لا يبصر فيمن يحب أى قبيح ولا يشم منه إلا أطيب ريح، و«مراية» الكراهية عند المصرى أشد عمى، فإذا كره فإنه لا يرى فيمن يكره أية مزايا، ولا يبصر فيه إلا الخطايا. فنحن لا نعرف فى تصنيف البشر سوى تلك التصنيفة الشهيرة التى تقسمهم إلى: آلهة وشياطين، ليكون الحب حتى العبادة للآلهة، والكره كل الكره للشياطين.
وأصل العلة فى هذا الداء يرتبط بالتطرف فى المشاعر، فالحب يكون بلا حساب، والكراهية هى الأخرى بلا حساب. وعندما يغيب الحساب يتراجع المنطق ويكسل العقل. لذلك فقد أجاد المصريون صناعة الآلهة من البشر، فالحب المفرط للزعماء أو المصلحين أو الحكام أو الرؤساء يحولهم إلى آلهة معبودة من دون الله. وتكاد تكون ظاهرة «ادعاء الألوهية» من جانب البشر ظاهرة مصرية خالصة، فقد خرج علينا فى الماضى ويخرج علينا فى الحاضر من يدعون النبوة، كذلك فعل مسيلمة الكذاب والأسود العنسى وطليحة الأسدى، أما ظاهرة ادعاء الألوهية فلم يعرفها مجتمع كما عرفها المجتمع المصرى، حين خرج فرعون فقال لشعبه: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى}، ولأنهم كانوا مجموعة من المغفلين فقد صدقوه وبدأوا يمارسون طقوس العبادة له، لقد أحب المصريون فرعونهم حب عبادة، وكرهوا أعداءه كراهية الشياطين.
وعشق المصريين لفكرة «الوله» بشخص هى التى تجعلهم يعيشون دائماً فى انتظار زعيم، أو قل إله يستمتعون بعبادته. ومشكلة ثورة 25 يناير فى رأيهم أنها كانت بلا زعيم، وسر الأصوات التى حصل عليها «حمدين صباحى» فى الانتخابات الرئاسية أنه استطاع أن يقدم نفسه للمصريين كزعيم، وخلود عبدالناصر فى العقل والوجدان المصرى ارتبط بكاريزما الزعامة التى كان يتمتع بها، وواحدة من أهم المهارات التى استطاع الدكتور «محمد مرسى» أن يقدم بها نفسه إلى المصريين هى مهارة «الخطابة» التى لا تتأتى إلا لزعيم يجيد مغازلة الوجدان الشعبى، ويعرف كيف يلهب الجماهير بالحماس عندما يثبت لهم جسارته ويفتح لهم «جاكتته»، ويصرخ أمامهم بالتحدى والتأكيد على أنه رجل يؤمن بأنه «لا جيش يهم ولا حكومة تبم»! ورغم الفارق الشاسع بين فكر كل من جمال عبدالناصر ومحمد مرسى، فإن الطريقة التى أدى بها الأخير فى خطاب ميدان التحرير تتشابه إلى حد كبير مع طريقة أداء الأول فى ميدان المنشية. نعم، اختلفت المشارب وتباينت الأفكار والأهواء لكن الشعب واحد فى عشقه للزعيم، لكن المشكلة أن هذا الشعب -بسبب جوعه التاريخى وتقلب مشاعره- يحب دائماً أن يصنع آلهته من «عجوة» ليعبدها نهاراً ويأكلها ليلاً!