قصص مخابراتية| "سوزانا" أشهر عملية جاسوسية ليهود مصر
جمال عبدالناصر
شهدت الفترة عقب ثورة 23 يوليو 1952، أحداثًا مثيرة، فقبل اندلاع تلك الثورة، تواصل الضباط الأحرار بالتواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعهدت لهم بضمان عدم تدخّل القوات البريطانية المرابطة في قناة السويس، في حالة نجاح حركتهم.
ونجحت حركة الضباط الأحرار، ولم تتدخل القوات البريطانية، وهنا بدأت العلاقات المصرية الأمريكية الوليدة تتوهج، ما أثار حفيظة عدد من القوى الأخرى التي بدأت علاقتها بأمريكا تتقلص، مثل إسرائيل التي شعرت بخطر وبدأت عملية تخريب عرفت باسم "عملية سوزانا"، وهي واحدة من أشهر عمليات الجاسوسية، على مستوى العالم.
وحسبما قال نبيل فاروق، في أحد مقالاته التي نشره على موقعه الرسمي، اعتمدت عملية "سوزانا" على تخريب مجموعة من الشباب اليهودى المدرَّب، بعض المنشآت الأمريكية والبريطانية في مصر في ذلك الحين، وشملت الخطة الاعتداء على دور السينما، ومؤسسات الدولة العامة، وبناء على هذه الخطة أُنشئ ما عرف بالوحدة "131" في مصر، والتي ضمت مجموعة من شباب اليهود في الإسكندرية، وكان المقدَّم "مودخاي بن تسور" مسؤولا عن إنشاء ومتابعة الوحدة (131)، التى اختار لقيادتها الرائد إبراهام دار، الذي سافر إلى مصر، ودخلها بجواز سفر زائف، كرجل أعمال بريطاني، تحت اسم "جون دارلنج"، وتلقت الوحدة أوَّل أوامرها 2 يوليو 1954، بتفجير 3 صناديق بريد، في مبنى البريد الرئيسي بالإسكندرية.
رغم أن التجربة الأولى لم تحدث صدى كبيرا، إلا أن المخابرات العسكرية الإسرائيلية لم تتراجع وأصرت على مخططها الجاسوسي تجاه مصر، ووضعوا قنبلة في المركز الثقافي الأمريكي في الإسكندرية، انفجرت صباح 14 يوليو، ثم في المركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة، مساء اليوم نفسه، وفي الحادثين عثر على جراب لنظارة، يشبه ما عثر عليه في حادث تفجير صناديق البريد.
وفي 23 يوليو من العام نفسه، كانت الخطة تقضي بوضع متفجرات في محطات القطارات، ومسرح "ريفولي" في القاهرة، وداري سينما "مترو" و"ريو"، إلا أن إحدى العبوّات اشتعلت، في جيب أحد منفذي العملية، قبل موعدها لخلل غير مقصود في تصنيعها وجمعها، وأنقذ من قِبل المارة، وبتفتيش الشاب الذي يُدعى "فيليب ناتاسون"، غير المعروف الجنسية، ويبلغ من العمر 21 عاما، ومع التحقيقات المكثفة انهار الشاب، واعترف بأنه عضو في منظمة مسؤولة عن الحرائق، التي شهدتها البلاد مؤخّرا، ما أسهم في استصدار قرار بسرعة تفتيش مسكنه، وهناك عثر على مصنع صغير للمفرقعات.
وبناء على اعترافاته، سقطت أفراد الشبكة تباعًا، والذين ادعوا أن هدفهم الرئيسي نابع من حب مصر، وأثبتت أجهزة المخابرات المصرية أنهما لا يمتان للوطنية بصلة، واحتجز عدد كبير من اليهود للتحقيق معهم، كان من بينهم "جاك بيتون".
وفي مصر ضبط عدد من المتهمين، مثل "صمويل باخور"، وهو مهندس يهودي، في الرابعة والعشرين من عمره، أسس خلية الوحدة في الإسكندرية، وتولَّى زعامتها مؤقتا، قبل أن يحتل فيكتور ليفي منصب الزعامة، لتفوقه خبرة وتدريبا، وعبر اعترافات "صمويل"، ألقي القبض على "ماير موحاس"، اليهودي البولندي الأصل، الذي يبلغ من العمر 22 عاما، ويعمل مندوبا للمبيعات، الذي أرشد في اعترافاته إلى "جون دارلنج" قائد الشبكة ومؤسس فرعيها في القاهرة، والإسكندرية، وأحد أخطر رجال المخابرات الإسرائيلية وأكثرهم مهارة.
وأرشد عن موسى ليتو، الجرَّاح ومسؤول فرع القاهرة، الذي تم القبض عليه، ليرشد بدوره عن باقي الجواسيس.
دفع سقوط الشبكة في مصر وما صحب ذلك من دوي إعلامي عالمي، موشى ديان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في ذلك الحين، لإصدار قرار بعزل "موردخاي بن تسور"، من قيادة الوحدة 131، وتعيين يوسى هارئيل بدلا منه، ومن الواضح أن اختياره لم يكن موفقا، إذ إن يوسى هارئيل اتخذ قرارا بالغ الغرابة والعجب، في تاريخ المخابرات كله، إذ خشى تحمَّل المسؤولية، فأصدر قراره بإيقاف جميع عمليات التجسس، في كل الدول العربية، واستدعاء جميع العملاء فيها، حتى لا يواجه مصيرًا مشابهًا لمصير سلفه، وفي 11 ديسمبر 1954، صدر الحكم على موسى ليتو مرزوق، وصمويل بخور عازرا، بالإعدام شنقا.
وتنوعت باقي الأحكام بين الأشغال الشاقة المؤبدة والأشغال الشاقة لـ15 عاما والأشغال الشاقة لـ7 سنوات، وأصابت صدور أحكام الإعدام والحبس الشارع الإسرائيلي آن ذاك بحالة من الغضب والغليان، وبذلت إسرائيل جهودًا مضنية، لإقناع مصر بالعدول عن الأحكام، لصغر سن المتهمين، وتدخل الرئيس الأمريكي - حينذاك - أيزنهاور، وأرسل رسالة شخصية إلى جمال عبدالناصر، يناشده الإفراج عن المتهمين لدوافع إنسانية، وكذلك فعل عدد من كبار المسؤولين الفرنسيين، إلا أن الرئيس جمال عبدالناصر رفض كل هذا، وأصر على المضي في تنفيذ الأحكام، باعتبار أن مصلحة مصر تفوق كل اعتبار، وبالفعل، وفى 31 يناير 1955، تم تنفيذ حكم الإعدام ونكست اسرائيل أعلامها، ووقف أعضاء الكنيست حدادا، وخرجت كل الصحف الإسرائيلية بمانشيتات سوداء .
الفضيحة لم تنته بعد، فقد تم عقد صفقة تبادل أسرى، عقب نكسة يونيو 1967، وتم الإفراج عنهم في بدايات عام 1968 ليعودوا إلى إسرائيل، وصدر قرار بتعيينهم في الجيش الإسرائيلي، كوسيلة لمنعهم من ذكر تفاصيل القضية، إلا أن أحد الأسرى ظهر على شاشة التليفزيون الإسرائيلي، بعد 20 عاما من العملية، في يوليو 1974، ليهاجموا الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لأنها لم تبذل الجهد الكافي لإطلاق سراحهم قبل هذا، وأنه لولا عملية تبادل الأسرى، لما عادوا إلى إسرائيل.