آية إيهاب تكتب: الخروج من القاهرة
آية إيهاب
بشكل ما يجعلنا الانغماس فى التجربة غير قادرين على التعبير عنها بدقة. الوجود وسط الصورة مُربك دائماً، والخروج عن هذا الإطار شيئاً فشيئاً يخلق مساحة أكبر للرؤية يُمَكّنُنا من النظر بدقة إلى الأمر، فنعيد تقييمه، وتقييم ذواتنا معه بالطبع، وهو الأمر الذى أتيح لى فى تلك التجربة التى بدأت تحديداً منذ ستة أعوام، فالخروج من القاهرة لم يكن أمراً مطروحاً على عائلتى حتى هذا الحين، إذ كانت تجارة أبى تسير على ما يرام، وأقاربنا جميعاً هنالك، لم يكن لدى حتى «بلد» أذهب إليه كما يقول أصدقائى، فجميع جدودى وعائلتى هنا، جذور جدى فقط تعود إلى طنطا، والتى ذهبنا إليها مرة واحدة فقط. القاهرة كانت بالنسبة لى كل شىء.
تغير هذا منذ قرر أبى الانتقال إلى مرسى مطروح، بعد الثورة أصبحت التجارة أو العمل الحر صعباً للغاية داخل القاهرة، لذا تخلى أبى عن بيع السيارات واتجه إلى بيع الأراضى، ورغم المفارقة الدرامية فى هذا الأمر، فإنه حدث. صار علينا لزاماً أن نتعامل مع الأمر، نترك جميع من نعرفهم لنجرب حظنا فى أرض غريبة حتى وإن كانت داخل الوطن نفسه.
أصعب شىء هنا للغاية هو الشتاء. شتاء قارس للغاية حتى على أهل البلد الأصليين، ليس هذا فحسب، بل تنعدم معالم الحياة تماماً، الكورنيش الذى لا ينتهى فيه عدد المصيفين لا يشاركنى فيه إلا الطيور فى الشتاء، أغلب المطاعم والمحلات والكافيهات تختفى، وكأن مطروح لا تكتسب حضاريتها إلا أثناء زيارة أهل الحضر لها.
يأكلنى الملل فى الشتاء كما يأكل الملح واجهات البيوت هنا شيئاً فشيئاً، بالنسبة لفتاة عاشت فى المدينة الصاخبة، فإن الوجود داخل المنزل لأيام طويلة لهو الجحيم بعينه، أترك أصدقائى، وأتعلم أن أرى صورهم دون حزن أثناء المناسبات عبر وسائل التواصل الاجتماعى فقط، دون أن أصبح جزءاً من الصورة كما كنت من قبل.
أصوات الحيوانات هى الأكثر إزعاجاً حينما يهدأ صوت البشر، ولكننا نحاول أن نجد السلوى فيما بعد بمشاهدة تلك الكائنات، يمضى البقر فى الطرق هو والسيارات جنباً إلى جنب، إذ لا يخاف أحد هنا من السرقة، كما أننا نرى الكثير من مظاهر الحياة البرية لحيوانات الصحراء التى قتلتها المدنية الحديثة، أما أزمتى الكبرى فمع المياه فنهر النيل لا يمضى داخل صنابيرنا كما يحدث فى القاهرة، هنا نعتمد على مياه الآبار والمطر بشكل كبير، لدى كل منزل خزان تأتى لملئه شركة المياه كل فترة، وإن نسينا تنظيف خزان المياه تظل المياه مزعجة لأنها «مزفلطة».
رغم كل محاولات التأقلم ما زلت أشعر بالغربة بشكل كبير، أشعر بها فى نظرات سكان المكان لنا التى لم تتعود بعدُ على هيئة السيدات المتَّشِحات بغير الأسود والنقاب، كما فشلت محاولتى فى الانضمام لجماعات أدبية بمطروح، لا أود أن أطلق فكرة عامة على شىء لم أعرفه كلية، ولكنها كانت تجربة شديدة البؤس بكل صدق، ربما لأننى بدأت من رحم القاهرة، ولقاءات الكتاب هنالك، والجلوس على زهرة البستان فى كثير من أيام الجمع.
فى الصيف تتغير معالم الحياة بشكل أكبر، تدب الحياة وكأنها لم تختفِ من الأصل، ربما لهذا أحب مطروح فى الصيف، يمكننا أن نأكل الدرة المشوى على الكورنيش والترمس وحمص الشام والتين الشوكى، وآيس كريم عزة، يمكننا الجلوس على أى من المطاعم المجاورة للبحر، كما أننا يمكننا نزول البحر أيضاً وهى فضيلة غير موجودة بالشتاء، يزورنا الكثير من أهلنا وأقاربنا لتقضية «المصيف» هنا، فنجد بعضاً من الأنس بصحبتهم.
أبدأ فقط بالشعور بشىء من بغضاء مركزية القاهرة. تبدو الكلمة كبيرة أو متكررة. لكن هنا تلمسها بصدق، مرضت منذ فترة فى يوم الخميس، فى الغالب الحياة هنا تتوقف من ليل الخميس وتنعدم تماماً الجمعة فيما يخص المؤسسات. كنت أتلوى من الألم، وأنا أنتظر مرور الجمعة حتى يمكننى الذهاب مرة أخرى لمركز الأشعة، حتى للقيام بعملية الجميع هنا يتحدث عن القاهرة التى يجب زيارتها لعمل العملية!
لم تنقطع بعد صلتى بالقاهرة تماماً. رغم أنى الآن أعمل من المنزل، إلا أننى أحاول نيل درجة الماجستير بجامعة القاهرة، وهو ما يجعل شتائى فى القاهرة فى الغالب، إلا أننى يمكن الآن أن أرى الصورة بشكل أوضح، كانت علاقتى بالقاهرة من قبل علاقة استهلاكية بحتة، أحنق عليها فى بعض الأوقات نظراً للزحام والتلوث وضغطها، أشفق الآن على بعض الأصدقاء ممن تحبسهم القاهرة طيلة العام، نحتاج التنفس بعض الشىء عن ذلك الاكتناز المضجر رغم صخبه، المدينة الساحلية تسمنا بطابعها فتجعلنا أكثر تقبلاً وتقديراً للحياة والعالم برغم مللها، بينما القاهرة تعلمنا أن نعارك الحياة.