بعد التوصية التى أصدرتها الهيئة الوطنية للصحافة برفع سعر الجرائد اليومية (القومية) إلى 3 جنيهات والأسبوعية إلى 4 جنيهات، وترك مسألة رفع سعر الصحف الخاصة والحزبية لكل جريدة وفقاً لأوضاعها المالية، أخشى أن أدعوكم وإياى إلى قراءة الفاتحة على روح الصحف المطبوعة. فعندما تم رفع سعر الصحف اليومية من جنيه إلى اثنين قبل بضعة أعوام انخفض توزيع الكثير من الصحف بصورة محسوسة، وأظن أن القرار الجديد سيؤدى إلى انخفاض حاد فى التوزيع ليصل إلى مستوى العدم بالنسبة لبعض الصحف اليومية التى لا يزيد توزيع بعضها حالياً على 1000 أو 2000 نسخة. نعم، فهذه أرقام توزيع بعض الصحف وقد تكون أقل فى بعض الأيام من هذا الرقم.
لا ننكر أن هناك عوامل أخرى عديدة -غير السعر- أسهمت فى تراجع توزيع الصحف المطبوعة خلال الأعوام الماضية، من بينها ارتفاع معدلات اعتماد القراء على البديل الإلكترونى كمصدر للمعلومات، وتوسع الصحف المطبوعة فى توظيف مواقعها الإلكترونية كنافذة لتوزيع مادتها والقيام بوظائفها فى حياة القارئ، يضاف إلى ذلك ضعف الخدمة المقدمة، الذى جعل القارئ يزهد فى الصحيفة، هذا الضعف الذى يصح أن نرده إلى عوامل عديدة يتعلق بعضها بمستوى الأداء، وبعضها الآخر بظروف عامة. تبدو الصحف المطبوعة بالنسبة لقارئ اليوم شديدة التشابه مع بعضها البعض، ولا يوجد عاقل بإمكانه مطالبة القارئ بالتماس العذر للصحف وشرائها رغم رداءة الخدمة تقديراً منه للظروف التى تعمل فيها.
يقول البعض إن توقف المطبوع والتحول الكامل إلى الإلكترونى هو منطق العصر والحالة السائدة فى كل دول العالم. هذا الكلام صحيح، لكن هناك فى المقابل تجارب عالمية متنوعة -مثل التجربة الهندية والتجربة اليابانية- تشهد على التوسع فى صناعة الصحافة المطبوعة وارتفاع معدلات الطلب عليها رغم ما يوفره الفضاء الإلكترونى من خدمات إعلامية. فى الهند على سبيل المثال تنعم الصحافة المطبوعة بحضور طاغٍ على ساحة الإعلام، ويجد هذا الأمر تفسيره فى عوامل مهنية وأخرى سياسية. فعندما وجدت الصحافة المطبوعة هناك نفسها فى حالة منافسة شرسة مع مواقع التواصل والفضاء الإلكترونى توجهت إلى تجديد أدواتها ولعبت على المساحات الشاغرة فى الإلكترونى حتى تتمكن من تقديم قيمة مضافة إلى المنتج الذى تلاحق القارئ به كل صباح، فاهتمت بالمعالجات المتعمقة، وركزت على الموضوعات المتخصصة، وحاولت أن تعلى من قيمة المحلية فى مضمون الصحيفة المطبوعة مقابل العولمية المسيطرة على الإلكترونى. استفادت التجربة الهندية أيضاً من مساحة التنوع وقدرتها على عرض وجهات نظر مختلفة ومعالجات متوازنة للأحداث، مكنتها من الخروج من دوائر الاستقطاب الغالب على الفضاء الإلكترونى.
فى تقديرى أن سوق الإعلام فى مصر ما زال بحاجة إلى الصحافة المطبوعة، وانصراف القارئ عنها لا يعبر فى كل الأوقات عن وقوعه فى شرك الحداثة واتجاهه إلى استبدال الإلكترونى بالمطبوع. المسألة وما فيها أن المنتج لا يشبع الحاجة والخدمة لا تتمتع بالجودة المطلوبة القادرة على خلق الطلب عليها، وفوق هذا وذاك مرتفعة السعر، فى وقت أصبح فيه المواطن يتحسب لكل جنيه يخرج من جيبه!
امنحوا الصحافة المطبوعة الحد المعقول من الاستقلالية وأفسحوا الطريق للمهنة والمهنيين الحقيقيين للقيام بأدوارهم، وأنعشوا الاقتصاد حتى يعود الضخ الإعلانى إلى تمويل الصناعة، ثم اسألوا بعد ذلك عن أوضاع الصحافة المطبوعة.. فارق كبير بين الحديث عن موت الصحافة المطبوعة وقتلها!