"أضحية نظيفة ومضمونة".. "الوطن" في أرض "رعاة الأغنام"
رعاة الغنم
في الصباح الباكر، يتحرك الراعي وقد جهز عِدة الترحال البسيطة في خُرج، لا يملك فيه سوى أدوات إعداد الشاي ويضعه على حمار ليقابل أصدقاءه من الرعاة الآخرين، لتبدأ الرحلة التي قد يعرف وجهته فيها إلى أرض اتفق مُسبَقًا مع مالكها الذي يريد أن يتخلص من حشائش وأوراق بقايا الموسم الزراعي، فيسمح لأغنامهم بالانقضاض عليه، وقد لا يعلم رعاة الغنم وجهتهم فينطلقوا إلى أرض الله الواسعة.
من "ميت برة" أو من "عرب أبو ذكري"، وهي قرى بمركز قويسنا في محافظة المنوفية، يتحرك ماهر ومحمد وآخرون من الغنامين شرقا وغربا، باحثين عن مرعى لأغنامهم، ليصل بهم المطاف أحيانا إلى مدينة زفتى بالغربية سيرا على الأقدام لمسافة 19 كيلومترا لمدة 4 ساعات، بحثًا عن طعام ماشيتهم، عندما يطول بهم المطاف.
في مثل هذه المناطق، يفترشون الأرض في العراء لبضعة أيام وليال، ليتناوب أحدهم على العودة للمنزل كل يوم، يطمئن على الأهل ويأتي لهم بطعام اليوم التالي.
"محمد" راعي غنم: ورثتها أبا عن جد و"ماتمنهاش لولادي"
محمد ذو الأربعة والثلاثون عامًا، بدأ يسرح بالغنم وهو في سن عشرة أعوام، واتجه لرعي الأغنام، لأنه لم يجد مورد رزق غيرها ولم يلتحق بالتعليم فورثها عن أبيه، ولديه من الأبناء اثنين، أحدهما خمسة أعوام والآخر ثلاثة أعوام، يسعى جاهدًا كي يجنبهما مصيره فألحق الكبير بالمدرسة "ماتمناش ولادي يبقوا زيي وهيكملوا تعليم، دي شُغلانة تِعبة، بنبات ليل ونهار برة في الشوراع".
ويتابع محمد: "لو انحرفت نعجة إلى أرض في الطريق لتأكل ورقة خضرا أو كوز ذرة، بيزعق صاحب الأرض وبيشتم"، يحاول محمد جاهدا أن ينأى عن الرد عليه حتى لا تقوم مناوشات كبيرة، ولذلك يرثي حاله، قائلًا: "لو اتعرض عليا شغل تاني هسيب الغنم الصبح".
رأس ماله هو 10 رؤوس من الغنم والماعز ويبيع طوال العام من نسلها، في السوق أو بالطلب، وكذلك إذا اضطرته ظروف المعيشة لبيع أحد أصول رأس المال كي يقضي دَيْن أو يسد أحد مستلزمات عائلته.
خلال رحلة الربع قرن لمحمد في مهنته، يرى أن الظروف الاقتصادية والغلاء تسببا في عرض الفلاح أرضه بعد موسم الحصاد لرعاة الأغنام بمقابل مادي، كي يطعم غنمه من ما تبقى في الأرض من بقايا النباتات، في حين كان أبيه يحصل على ذلك مجانًا، وأضاف أن التطور في تكنولوجيا الزراعة مثل ظهور "الرش" الذي يقلل من ظهور الحشائش في الأرض، كل ذلك جعل المهنة صعبة.
ازدادت الأمراض التي تصيب الأغنام وتحصينات الوحدات البيطرية لم تُجد نفعا، هكذا يشكو محمد من سنوات لا يستطيع فيها تحقيق عائد مادي مناسب، ففي هذا العام فقط، خسر صغار 5 نعجات كُنَّ قد أَوْشكن على الوضع بعد أشهر من الرعاية والانتظار.
أما ماهر عبد الرحمن، 25 سنة، يعيش في قرية عرب أبو ذكري، أصبح غنَّامًا منذ كان عمره 10 أعوام وارثا المهنة عن أبيه عندما أنهكه الترحال مع الأغنام، ليفقد ماهر فرصة تعليمه قبل أن يتم المرحلة الأساسية، ويقضي وقته في مراقبة أغنامه ليل نهار حتى أصبح قادرا على تمييزها عن أغنام رفاقه في الترحال "لو غنمة بتاعتي راحت وسط ألف هعرف أطلعها".
"ماهر": الإقبال على شراء الأضاحي بدأ يقل.. ولجأت للبيع والشراء مع زبائن "فيسبوك"
بجانب رعايته للأغنام يشتري أغنامًا لبيعها كتاجر في أسواق المواشي، فكانت حركة بيع الأضاحي مستمرة إلى يوم وقفة عرفات مساءً، ولكن هذا العام أصبح الإقبال أضعف، فمنذ بضعة أيام لم يتصل عليه أحد زبائنه، كما عرف أن بعضهم اتجهوا لشراء أضحية أقل سعرا وبعضهم قرر العزوف عن الشراء هذا العام.
وتابع ماهر أن الأضحية هذا العام يُقدَّر سعرها من 5000 جنيه إلى 7500 جنيه، بينما يصل سعر النعجة الأم إلى 12 ألف جنيه، ليبيعها حين تضطره الظروف الاقتصادية أو بناءً على خطة تجديد النسل.
في رمضان من كل عام، يستعد ماهر لموسم عيد الأضحى، حيث يشتري ما يزيد عن 40 رأسا من الأغنام ليُولِيها رعاية خاصة حتى تسمن ويزيد وزنها كي يعرضها في سوق المواشي قبل العيد الأضحى، فماهر يرى أن موسم عيد الأضحى له كغنَّام مثل موسم شم النسيم لتاجر السردين، ولكن كان ذلك في الأعوام السابقة.
أما هذا العام، لم يستعد ماهر استعدادًا كبيرًا، حيث اشترى نصف الكمية التي اعتاد لتسمينها قبل حلول العيد بفترة قليلة، ومع ذلك لم يبع حتى الآن ما يقرب من نصفها.
يحب ماهر الأطفال كثيرًا لدرجة أنه يخاف أن يمر طفله المستقلبي بمثل ظروفه، أو أن تتأثر حياة طفله بعدم استقرار مهنته، التي حاول مرارًا أن يتركها ليصبح تاجر ملابس ثم عتَّالا وتبَّاعا على أحد عربات النقل، ولكنه ترك هذه المهن سريعًا وعاد لترويض وتربية 15 نعجة هي رأس ماله الحالي، مُعلِلًا ذلك أنها أصبحت "غِيْة ماقدرش أسيبها" وحتى لو حصل على عمل آخر لكان حريصًا على البقاء على 5 نعاج في حظيرة منزله.
في الصيف يكون رعي الأغنام سهلًا، حيث تكون مهمته هي التنقل بين الأرض الواسعة فقط، كما أن الضأن يسمن أكثر بارتفاع الحرارة، وفقا لخبرة ماهر، أما في الشتاء، يضطر لتأجير أرض بمبالغ تصل إلى 5 آلاف جنيه تكفي لشهر فقط، بالإضافة إلى العمل في الأرض حيث "يحش" البرسيم ليُطعم أغنامه، ثم يضطر إلى تنظيف أماكن الغنم وتجديد طبقة أرض المبيت نظرا لتساقط الأمطار.
لأنه راعي غنم، لم يجعله ذلك يتوقف عند الرواح والغدو بغنمه فقط، حيث يمتلك ماهر حسابا على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، الذي يسهّل من التواصل مع تجار ومريدي الأغنام في أماكن متفرقة لم يكن ليستطيع الوصول إليهم ببضاعته تقليديا.
سعر كيلو اللحم الحي 60 جنيها.. وأحد الزبائن: أغنام الرعي "نضيفة ومضمونة"
التقت "الوطن" بعضا من زبائن رعاة الأغنام، الذين جاءوا لاقتناء أضحية أو نذر ذبح أو حتى بعض من جاء يبتغي شراء أضحية العام المقبل، واتفق مريدو الضأن أن سلالة أغنام الراعي تكون أفضل وغير متوافرة في الأسواق أو لدى تجار المزارع والبيوت، وأضاف أحدهم أن لحمها أفضل وأكثر كما أنها تتمتع بقابلية للتكاثر أفضل.
وعن ذلك قال "ماهر": أغنام الراعي تكون أغلى، لأن لحومها حمراء، بفعل سيرها الطويل الذي يُذيب دهونها، فيصل سعر الكيلو (قايم) 60 جنيها لهذا الموسم".
يقفل يوم الرعي أبوابه مع آذان المغرب لتعود الأغنام إلى زرائبها، ويأتي عيد الأضحى ليبيع كل غنَّام ماشيته، التي احتفظ بها طول العام كي يبيعها على أبواب مذبح المسلمين، ليبدأ سوق الأغنام الأول بعد العيد والذي يكثُر فيه عرض أغنام صغيرة السن "لَبَان"، يشتريها من يريد أن تُربَّى أُضحيته أمام عينيه في منزله، حيث يلتقي موسم أضاحي العيد الحالي مع موسم العيد التالي في يوم عرفة، حيث يبيع الغنَّام في هذا اليوم أغناما جاهزة للذبح في اليوم التالي وأغنام أخرى صغيرة لموسم الأضاحي للعام المقبل، لتستمر حركة البيع هذه حتى عاشوراء.