السعادة وما أدراك ما السعادة، فهى تتمثل فى أشياء كثيرة، تتمثل فى حب الآخرين، فى نجاح، فى صحة، فى استقرار، فى زواج، فى اهتمام، فى هدية ثمينة، وأحياناً تتمثل فى أشياء أخرى أعجز عن حصرها وعن ذكرها.
والسعادة بالنسبة لأى شخص هو أن يجد اهتماماً من الآخرين، أو أن يصنع أحدهم معروفاً معه ولو كان قليلاً، ولا تقتصر السعادة على المقربين منه فقط، ولكنها قد تشمل آخرين ليس بينه وبينهم سابق معرفة، ولكنهم حريصون على فعل الخير، بل ويسارعون إليه.
ولقد رأيت بنفسى من يفعل الخير، ويصنع المعروف لأشخاص لم يعرفهم من قبل، بل ويحاول إسعادهم أيضاً ولو كلفه ذلك مالاً، ولكنه حريص على القيام به إيماناً منه إن الخير لا يأتى إلا بخير.
كُنت طفلاً صغيراً لم أتجاوز العشر سنوات، وبالتحديد فى عام 2005، وكنت أنا وعائلتى على موعد فى الذهاب لزيارة أحد الأقارب، كما تعودنا على صلة الأرحام باستمرار، وكانت دائماً جدتى تحثُّنا على ذلك وتقول: «صلة الأرحام تزيد فى الأعمار وتبارك الأرزاق».
استقليت «توكتوك»، مع والدتى وأخى الأصغر، ولا سيما فهو وسيلة المواصلات الداخلية الوحيدة فى مدينتا «بيلا»، بمحافظة كفر الشيخ، والناس قد تعودوا على قضاء جميع مصالحهم من خلاله، وكان يقود هذا «التوكتوك» رجلاً، ليس بجسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير، بشوشاً، مبتسماً، لطيفاً فى تعامله.
فى البداية، أخذ الرجل يحدثنى أنا وأخى، ويسألنا عن دراستنا، وجدنا، وتحصيلنا فى الصفوف المدرسية، وتارة يبتسم، وتارة أخرى يشرد فى طريقه، أخذنا نتحدث أنا وأخى الصغير، وبدأنا فى تناول الحلويات التى كنا قد اشتريناها من سوبر ماركت مجاور لمنزلنا، كعادة الكثير من الأطفال فى هذا السن.
وفى منتصف الطريق، كان هناك شاباً يبيع أكاليل زهر الفل، وربما لم يجد فرصة عمل، كغيره من الشباب الذين أتى عليهم الدهر، وتفاجئنا بهذا الرجل يستوقف «توكتوكه»، لشراء عقدين من الفل، وقام بإهدائهما لى ولأخى، وكان سعر عقد الفل الواحد حينذاك يساوى تعريفة الركوب أو يزيد.
أخذنا ننظر إلى والدتى أنا وأخى حتى تأذن لنا بأخذ عقدين الفل من هذا الرجل الذى ربما ندر وجودُه هذه الأيام، وأذنت لنا والدتى، وشكرنا هذا الرجل، على هذه الفعلة الطيبة، وأخذت أفكر كيف لهذا الرجل أن يتنازل عن أجره الزهيد ويقوم بشراء عقدين من الفل لطفلين ليس بينه وبينهما سابق معرفة، كيف استطاع أن يُضحى بقوت يومه من أجل إسعاد طفلين تملّكتهم البراءة.
كان رجل فاضل، ومكافح، لم أعرف اسمه أو أصله أو فصله، رجل متسامح فى نفسه، كريم فى عطاءه، لم أعرف أكان عقيم فلم يُنجب وأراد أن يعوض هذا الحنان، أم كان أب وفقد أبناءه، أم لم يتزوج من الأساس، ولكن كل ما لمسته فيه هى الطيبة والحنان.
الحقيقة أيقنت فى ذلك الوقت أن فعل الخير مع من نعرفه ومن لا نعرفه هو عمل عظيم، ثوابه كبير عند الله عز وجل، ومجرد أن يرسم أى شخص البسمة على شفاه المحيطين به، ويدخل الفرح إلى قلوبهم يكون بذلك قد تربع على عرش الإنسانية.
فى النهاية نصيحتى للجميع، ولنفسى قبلهم.. اصنعوا المعروف مع أهله ومع غير أهله، فإن أصبتم أهله أصبتم أهله، وإن لم تصيبوا أهله فأنتم أهله، واعلموا إن الخير لا يَبلى، والشر لا يُنسى، والدَّيان لا يموت، اعملوا كما شئتم كما تدينُوا تُدانُوا!!