«بولاق الدكرور» فى قبضة تجار «السموم»: البيع والتعاطى على «النواصى»
عدد من متعاطى «الاستروكس» يظهر عليهم تأثيره بعد تعاطيه
الطريق إليها سهل ومعروف، لا يتطلب من الغريب أو الباحث عنها جهداً، فإلى جوار محطة مترو البحوث، بحى الدقى، يوجد ذلك الكوبرى المعروف باسم «كوبرى الخشب» كمنفذ لعبور المقبلين من منطقة المهندسين الراقية إلى عالم آخر «عشوائى»، حيث منطقة بولاق الدكرور بمحافظة الجيزة، فبمجرد أن تخطو قدماك درجات سلم الكوبرى تتلقاك أعين تبدو فى نظراتها أنها تبحث عن «زبون» لشىء ما، هيئة أصحابها غير مرتبة، يرتدون ثياباً متسخة، وحركاتهم شبه دائرية حول المكان الواقفين فيه.
أعلى الكوبرى تظهر تلك البيوت القديمة المتلاصقة، وفى الداخل شوارع طولية وضيقة، يتفرع منها حارات صغيرة يقف على نواصيها شباب فى مقتبل العمر، لم تختلف هيئتهم عن الواقفين فى بداية الكوبرى، يحملون فى أيديهم أكياساً بلاستيكية بها مخدر «الاستروكس» واضحاً للمارة، وفى اليد الأخرى حصيلة ما باعوا به من أموال منذ بداية اليوم.
«كوبرى الخشب، وشارع همفرس، وشارع الجامع البحرى، وبولاق القديمة» كلها مناطق فى «بولاق الدكرور» يعيش أهلها فى رعب دائم وأزمات متعددة يتعرضون لها تباعاً بسبب انتشار بيع المخدرات بها، وبالأخص مخدر «الاستروكس» و«الفودو»، لما يتمتع به من رخص سعره مقارنة بغيره، كما قال الأهالى، الذين رفض أغلبهم ذكر أسمائهم خوفاً من ردود فعل تجار تلك السموم بالمنطقة.
ذروة البيع فى الساعات الأولى من النهار والليل.. وأحد المواطنين: «عايشين أيام سودة وسط عصابة ومحدش قادر عليها وبافكر أمشى من المنطقة»
فى أحد الشوارع، التقينا أحد الأهالى فى بداية عقده السادس من العمر، يعيش وسط هذه الحالة «المقرفة» كما وصفها منذ سنوات طويلة، بحكم امتلاكه «سوبر ماركت» يعمل على مدار اليوم، وعبّر عن معاناته قائلاً: «إحنا فى ابتلاء صعب، ومش عارف لمصلحة مين تدمير الشباب بالمخدرات الجديدة اللى طالعة دى».
«الفودو عدى حدوده» جملة هى الأشهر بين سكان شوارع منطقة بولاق الدكرور، كما يقول المواطن الستينى، ليدلل بها عن «دولاب المخدرات» المفتوح طيلة اليوم فى منطقته، لا يقدر أحد على تُجاره، ولهم طرقهم فى تفادى الحملات الأمنية على المنطقة من وقت إلى آخر عن طريق «الناضورجية» الموجودين على رؤوس الشوارع الرئيسية، أو من خلال معرفتهم لوجوه رجال الشرطة المترددين من حين إلى آخر عليهم، ويضيف: «بمجرد ما بيشوفوهم بيعرفوا إن فيه حملة نازلة ويوم ما بيمسكوا حد بيكون عيل صغير أو واحد جاى يشترى إنما مبيوصلوش للراس الكبيرة».
ورغم انتشار بائعى «الاستروكس» بصورة كبيرة على نواصى الشوارع ورؤوس الحارات ببولاق، فإن هذه الصورة لم تكن على هذا النحو منذ أيام، قبل أن تلقى قوات الأمن القبض على أحد بائعيه، ليهدأ الحال كما هو عليه الآن بصورة مؤقتة، حسب تقدير مواطن قال: «البيع هنا بالطابور، ولا طوابير العيش وجميع البائعين من المنطقة لكن الزبائن من مناطق مختلفة، تتراوح أعمارهم بين 15 عاماً إلى ما فوق الثلاثين، وضمن الزبائن شباب وفتيات وسيدات»، وفق قوله.
«سامى»: الناس عارضة بيوتها للبيع هرباً من القرف اللى شايفينه .. وفيه ناس سابت سكنها ومشيت خوفاً على عيالها.. وسيدة: بقينا عايشين مع «دراكولا» والذين يتعاطون «الاستروكس» يتحولون إلى «حيوانات» تمشى فى الشوارع
ذروة البيع حسب «المواطن الستينى» تبدأ فى الساعات الأولى من فجر كل يوم، والساعات الأولى من الليل، ومن خلال كاميرات المراقبة فى «السوبر ماركت» يشاهد عمليات البيع، إلا أن هذا الأمر سبب له العديد من المشكلات مع بائعى «الاستروكس» لنزع الكاميرا وهو ما كان يرفضه، حتى استقروا على تغيير وجهة الكاميرات تجنباً للمشاكل، ويوضح: «عايشين أسود أيام حياتنا وسط عصابة ولا الباطنية محدش فينا يقدر عليهم، ووصلت لدرجة إنى بفكر أنقل المحل بتاعى بعد 20 سنة قضيتهم فى المنطقة».
وأثناء الحديث مع الرجل الستينى داخل محله، التقطت سيدة، تشترى بعض احتياجاتها، أطراف الحديث، لتقول بنبرة غاضبة: «يا ريت يرحمونا من البلاوى ديه، إحنا بناتنا بتخاف تنزل الشارع من اللى بنشوفه، وإحنا بنخاف عليهم لما يكونوا رايحين يعملوا أى حاجة، لأن بياعين المخدرات طول النهار قاعدين بالأكياس بتاعتهم»، قالتها وانصرفت وهى تتمتم ببعض كلمات دلت على حنقها الشديد من الوضع الذى تعيش فيه.
صورة متكررة أخرى فى شوارع منطقة بولاق، بجانب صورة انتشار بائعى الاستروكس، تمثلت فى لافتات البيع التى وضعت على عقارات متعددة، وبدت كأنها وسيلة أخيرة يحاول من خلالها الأهالى الهروب من المعاناة التى يعيشون فيها، كما قال سامى صلاح الدين، أحد سكان شارع همفرس، ليضيف قائلاً: «الناس عارضة بيوتها للبيع من القرف اللى إحنا شايفينه، وفيه ناس سابت البيوت ومشيت من غير ما تبيعها، واللى قاعدين كلهم بقوا قافلين أبوابهم بالحديد».
على رؤوس حارات شارع همفرس يقف البائعون، حسب قوله، يجذبون المارة وينادون عليهم من أجل عرض بضاعتهم، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، ليضيف قائلاً: «دلوقتى فيه ناس بتصنع الفودو والاستروكس فوق البيوت فى المنطقة»، فضلاً عن المشاجرات التى لا تنتهى يفتعلها بائعو المخدرات، وفق «سامى»، ويوضح: «فى رمضان اللى فات حصلت مشكلة كبيرة بسبب إن واحد من السكان لقى واحد منهم داخل البيت عنده يلف سيجارة، ونزل طرده وبياعين المخدرات ساعتها اتلمت عليه واتخانقوا معاه وبهدلوه».
وفى شارع الجامع البحرى لم يختلف الأمر كثيراً، حسب أحمد إبراهيم، أحد سكان الشارع، الذى يرى أن أزمتهم ستزداد أكثر مع عودة الدراسة نهاية الشهر الحالى، حيث إنهم لا يأمنون على أطفالهم من المرور أمام بائعى الاستروكس ومتعاطيه فى الساعات الأولى من اليوم، ويقول: «الصبح بيكونوا مرميين قدام البيوت ده غير بالليل الشارع بيتحول خلية نحل».
سعر سيجارة الاستروكس فى منطقة بولاق الدكرور قد يصل إلى10 جنيهات فقط، حسب «أحمد»، وهو السبب وراء انتشاره بشكل كبير مؤخراً، ما ألحق ضرراً كبيراً بهم، ما جعلهم يتقدمون بشكاوى كثيرة إلى مجلس رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية من أجل حل أزمتهم، وهو ما لم يتم حله حتى الآن، ويقول: «اليومين الإجازة اللى بنكون قاعدينهم فى الأسبوع بنعمل فيهم 100 خناقة مع اللى بيكونوا ماشيين فى الشارع، مش داريين بنفسهم من الشرب وممكن يضايقوا واحدة كبيرة أو بنت معدية».
وفى أحد شوارع «بولاق القديمة» جلست سيدة أربعينية داخل محلها لتفصيل ملابس حريمى، رفضت ذكر اسمها، تحكى عن معاناتها فى العمل فى ظل هذه الحياة التى تعيشها المنطقة منذ كانت طفلة، فهى تتعامل فى معظم الأوقات مع سيدات وفتيات، الأمر الذى يواجهن فيه صعوبة فى الوجود بالمحل بسبب ما يرونه فى الشوارع من بيع وشرب الاستروكس، وتقول: «بقينا كأننا عايشين مع دراكولا فى الشوارع، وبنمشى نشوف أشكال غريبة، لأنهم لما بيشربوا بيتحولوا كأنهم حيوانات، سواء فى شكلهم أو طريقتهم فى المشى وحركات إيديهم ولسانهم اللى بيتعوج»، الأمر الذى أصبح لا يتناسب مع عدد كبير من سكان المنطقة، حسب قولها، وتضيف: «كل اللى وصل ولاده تعليم عالى خرج من المنطقة عشان اللى فيها وعشان يحمى عياله، لكن فيه ناس قاعدة مجبرة عشان مش قادرين يروحوا فى أماكن تانية»،
ولم تقتصر معاناة انتشار بيع «الاستروكس» فى بولاق الدكرور على القاطنين فيها فحسب، إنما امتد الأمر إلى خارجها، وهو ما تحدث عنه عصام محمد، صاحب الـ50 عاماً، وأحد سكان منطقة بين السرايات، فهو يرى هؤلاء البائعين والمشترين بشكل يومى أثناء ذهابه وإيابه من العمل، حيث يعمل موظفاً فى حى الدقى، فهم يتركزون أسفل مطلع محور صفط اللبن من منطقة كوبرى الخشب، ما يسبب لهم العديد من الأزمات: «يومياً طول النهار موجودين، إما شاربين أو نايمين ولو صاحيين فايقين ممكن يسرقوا أى حاجة من أى حد معدى».
عدد من المتعاطين لمخدر «الاستروكس» يتخذون من هذه المنطقة المجاورة لسكن «عصام» مقراً لهم، ويأتى إليهم «الديلر» كل يوم لإعطائهم ما يريدون، حسب قوله، الأمر الذى يضع أبناءه وأبناء سكان منطقته فى خطر دائم: «بناتنا بتروح دروسها من الطريق ده، بس ماكانش قدامهم غير إنهم يغيروا مسارهم وخدوا طريق تانى أبعد ومبقوش يمشوا من هنا عشان محدش يكلمهم»، يتعجب «عصام» من الآثار التى تنتج عن تعاطى هذا المخدر «الجديد» كما وصفه، وهو ما يراه بعينيه كل يوم: «مرتين تلاتة أشيل كام واحد منهم من قدام العربيات وكان هيموت، ده غير إن ناس كتير منهم اتخبطت من عربيات».