مصر القبطية: «مدرسة الإسكندرية».. أول جامعة لاهوتية فى التاريخ الإنسانى
صورة توضيحية لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية
منارة للعلم والثقافة، هكذا كانت «الإسكندرية» فى بداية ظهور المسيحية، حتى خرجت منها مدرسة الإسكندرية اللاهوتية كأول جامعة لاهوتية يعرفها العالم المسيحى فى العالم، أسّسها القديس مارمرقس الرسول، مؤسس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وأول من بشّر بالمسيحية فى مصر، حسب التاريخ الكنسى.
القمص ميخائيل جريس: أسسها «القديس مارمرقس» لمواجهة «الوثنية».. وكانت مهد اللاهوت وأشهر معهد فى العالم المسيحى الأول
ويقول القمص ميخائيل جريس، كاهن كنيسة السيدة العذراء مريم، بشبرا الخيمة، إنه «عندما حضر مارمرقس إلى مصر كانت الإسكندرية مركزاً مهماً للثقافة الوثنية، وفى مدرستها الوثنية ومكتبتها الشهيرة (مكتبة الإسكندرية) تخرَّج كثير من الفلاسفة والعلماء، فكان لا بد أن يقيم مدرسة لاهوتية لتثبيت الناس فى الدين وترد على أفكار الوثنيين، وكان مارمرقس نفسه يعرف اللغات العبرية واللاتينية واليونانية، وحسب ثقافته هذه أدرك مقدار خطر الفكر الوثنى، وهكذا أنشأ مدرسة لاهوتية مسيحية فى الإسكندرية وعين لرئاستها العلامة يسطس».
ويضيف القمص ميخائيل، فى كتاب «مذكرات فى تاريخ الكنيسة»، المقرر على طلبة الفرقة الثانية بالكليات الإكليريكية القبطية، أن المدرسة الوثنية التى أنشأها بطليموس الأول ملك مصر، بلغت ذروتها فى العلوم والفلسفة فى القرن الأول للمسيحية، ولم توجد مدرسة تعادلها فى دراستها الطبيعية والعلمية فى الطب والتشريح والرياضة والفلك، من أجل هذا كانت هذه المدرسة منافساً للمدرسة المسيحية، ومع ذلك عاشت المدرستان جنباً إلى جنب، لكل منهما طابعه الجامعى الخاص، لكن هدف التعليم فى المدرستين يختلف، إذ كان هدف الدراسة فى المدرسة الوثنية هو الوصول إلى مركز مرموق فى الدولة، بينما فى المدرسة المسيحية لم يكن هدفاً، رغم أن خريجى هذه المدرسة يصلحون لذلك، كما أن طلبة المدرسة الوثنية كانوا من مستوى ثقافى واجتماعى معين، والطلبة كانوا ذكوراً فقط عكس المدرسة اللاهوتية، حيث كان التعليم عاماً للجميع، لا تمييز بين السيد والعبد، والذكر والأنثى، الجميع واحد، بالإضافة إلى أن سنوات الدراسة فى المدرسة الوثنية كانت محدودة، عكس المدرسة اللاهوتية فكانت غير محدودة.
ويشير كاهن كنيسة العذراء ببيجام، إلى أن المدرسة اللاهوتية كانت تناهض الوثنية بكل طاقتها، حتى إنها أدخلت الفلسفة الوثنية فى دراستها على يد القديس إكليمندس الإسكندرى، حتى تستطيع أن ترد على هجمات الوثنيين، مؤكداً أن خطة الدراسة بالمدرسة اللاهوتية كانت تعتمد على الرياضات الروحية، حيث يصلى الطلبة ويقرأون ويصومون، وكانت تعتنى فى البداية بشرح التعليم المسيحى وتبسيطه، وكان طلابها ينقسمون إلى ثلاثة فرق: «فريق كان وثنياً يريد أن يعرف الحقيقة، فيُفتش عليها بالدراسة فى هذه المدرسة، والثانى كان وثنياً وآمن بالمسيحية، لكنه لم يكن قد حصل على سر المعمودية (أى كان فى صفوف الموعوظين)، وما زال يدرس ويؤدى امتحانات حتى إذا جاز الامتحان النهائى يُسمح له بالعماد، والثالث وهم المسيحيون، فلكى يدخلوا للعمق أكثر، ولكى يزدادوا رسوخاً وإيماناً يدرسون فى هذه المدرسة، ولكى يتمكنوا من الخدمة فى الكنيسة والعمل على نشر المسيحية»، موضحاً أنه بسبب تناظر المدرستين الوثنية واللاهوتية، اهتمت المدرسة اللاهوتية بدراسة العلوم والثقافات المختلفة، فقد أدخلت فيها علوم الطب والكيمياء والطبيعة والحساب والهندسة والفلك والجغرافيا والتاريخ والموسيقى واللغات.
ولم يكن للمدرسة الإكليريكية اللاهوتية فى عهودها الأولى مبنى خاص، إنما كانت مركزة فى علمائها، وحيثما يوجد أساتذتها كانت توجد المدرسة، وقد ذُكر عن العلامة أوريجانوس أشهر أساتذتها أنه كان يستأجر قاعات ليعظ فيها فى أيام اضطهاد المسيحيين، وكان للأستاذ الحرية أن يعلم طلبته كما تتهيأ له الظروف، وكما توصى إليه طبيعته الخاصة وحاجة الطلاب وظروفهم، لكن بعد ذلك بدأت الإكليريكية تعد منهجاً خاصاً للدارسين ينقسم إلى ثلاث مراحل: «الأولى هى مرحلة العلوم، وفيها يدرسون الهندسة والفسيولوجيا والفلك، والثانية دراسة الفلسفة، والثالثة دراسة العلوم اللاهوتية عبر المنهج الجدلى»، وبلغت أهمية تلك المدرسة أن اعتبر الهروب من الدراسة فيها «كفر».
كما كانت مدرسة الإسكندرية التعليمية أشهر معهد فى العالم المسيحى الأول، وكان الاهتمام مُنصباً على دراسة الكتاب المقدس، وقد ارتبط اسمها بالتفسير الكتابى، وكانت المدرسة جزءاً لا يتجزأ من الحياة الكنسية، وقدمت ضوءاً على أهمية العلم والتعليم بوجه عام، كما خلقت قادة فى الفكر وفى العمل الكنسى الرعوى على المستوى المحلى والمسكونى، وأسهمت فى إنشاء أول نظام للدراسات اللاهوتية فى العالم، وكانت مهد اللاهوت المسيحى.