(1)
قبل قرابة نصف قرن من الآن كانت كرة القدم لعبة تعتمد على الأداء الفنى وليس العنف والقوة البدنية والتلاحم الذى يصفه المحللون والحكام حالياً بـ«الأداء الرجولى».. وكانت أقصى درجات العنف فى ذلك الحين تتمثل فى «الكتف القانونى» الذى يعنى السماح للاعب بإقصاء اللاعب المنافس من خلال استخدام كتفه فى إزاحة كتف اللاعب الآخر، وكان لهذه الإزاحة القانونية عدة شروط أهمها ألا يستخدم اللاعب ذراعه أو سائر الأعضاء الأخرى ولكن الكتف فقط، ويجب أن يكون استخدام هذه الكتف فى مواجهة نفس الجزء من جسد اللاعب الآخر، وما دون ذلك يمثل مخالفة قانونية ويجوز إنذار مرتكبها.. حتى هذا النذر اليسير من العنف الكروى المشروط والمشروع كان محل انتقاد من النقاد والجمهور لأنه يؤدى فى كثير من الأحيان للإطاحة باللاعب الفنان أمام نظيره العملاق قوى البنية الذى يلجأ لاستخدام صراع الأكتاف لعجزه عن استخلاص الكرة بالذوق والمهارة من منافس يتفوق عليه فى الموهبة.
وفى تلك الحقبة من تاريخ كرة القدم كان المدافعون على درجة عالية من الموهبة الكروية وليس القوة البدنية والأداء الوحشى، وشهدت الملاعب المصرية أجيالاً من المدافعين الحريفة مثل أشرف قاسم وإبراهيم يوسف وحسن حمدى ومحمد عمر والبورى ومحمود بكر ومحيى عثمان ورفاعى.. إلخ إلخ.
ولم يكن متاحاً آنذاك السماح لأشخاص مثل وائل جمعة وسعد سمير وطارق حامد وعمرو السولية وحسام عاشور.. إلخ إلخ، ممارسة لعبة كرة القدم على المستوى الاحترافى أو الودى أو الأخوى، ولم تكن خطط اللعب تتضمن آنذاك مركز «الهاف ديفندر» أو لاعب الوسط المدافع الذى يوشك حالياً على التحول إلى «قاطع طريق» يمنع هجمات الفريق المنافس بأية وسيلة حتى لو اضطر إلى إصابة أحد أو بعض المنافسين بعاهة مستديمة!
(2)
بدأ مسلسل العنف الكروى القانونى فى الملاعب المصرية والأوروبية والأفريقية وفى سائر بلدان العالم مع تحول خطط لعبة كرة القدم من الهجوم إلى الدفاع خرجت طريقة الظهير الثالث وطريقة 4/2/4 من الخدمة فى الثلث الأخير من القرن الماضى، وظهرت خطط أخرى يتحول فيها كل الفريق إلى مدافعين مع الاحتفاظ بمهاجم رسمى واحد، يعاونه عند الهجوم لاعبان من خط الوسط ولاعبان من خط الظهر، مع إمكانية مشاركة آخرين عند موجات الهجوم الكاسح الكثيف، فى ظل هذا التحول الخططى نال المهاجمون الموهوبون أكبر قسط ممكن من الخشونة والضرب والإصابات، وتفوق نصيب بعضهم من الضرب على ما يناله حرامى الأحذية فى مسجد حال إمساك المصلين به متلبساً بالسرقة! ولولا التماسك البدنى للاعبين مثل مارادونا وميسى لكان كل منهما قد تعرض للقتل أثناء المباريات على يد أى مدافع مخلص غيور على نفسه وناديه ولا يقبل البهدلة والترقيص أمام ملايين المشاهدين ومنهم بالطبع أسرته وأصدقاؤه!
وفى مصر قضت الخشونة الرهيبة على جيل كامل من الموهوبين مثل حازم إمام الكبير وحمادة عبداللطيف وفاروق السيد، لاعب النادى الأولمبى السكندرى، وحالياً تم استبعاد أيمن حفنى ومدبولى وعنتر من تشكيل فريق الزمالك رغم أن كلاً منهم يتفوق فى المهارة على كل لاعبى مصر وليس الزمالك فقط، ويحاول اللاعب الأجنبى الموهوب فى فريق بيراميدز، «كينو»، النجاة من الموت على يد المدافعين فى كل مباراة، ويتعرض محمد صلاح لموجات من العنف المرعب على أيدى مدافعى كل الفرق التى يواجهها، ولا ينجو من هذا العنف سوى المهاجم الذى يشبه المصارعين مثل باسم مرسى ومروان محسن وحسام باولو وغيرهم.
(3)
لا أعلم صلاحيات الاتحاد الدولى لكرة القدم فى تعديل قانون اللعبة، ولكن أتمنى أن يعيد أصحاب الشأن النظر فى مستقبل كرة القدم التى تتحول بالتدريج إلى شأن قمىء عنيف سوف يلحق تدريجياً بكرة القدم الأمريكية (الرجبى) التى تمثل مع مصارعة الثيران وعنف كرة اليد دليلاً قاطعاً على حماقة إخواننا سكان الدول المتقدمة المتحضرة وفساد أذواقهم، أتصور إمكانية استحداث قوانين جديدة تلغى مشروعية أى قدر من العنف والتلاحم بين لاعبى كرة القدم وتعود باللعبة إلى بدايات النصف الثانى من القرن الماضى حيث الاعتماد فقط على المهارة والموهبة واللعب النظيف دون عنف مشروع أو غير مشروع. ويمكن أيضاً إعادة النظر فى مسألة التسلل الذى يؤدى إلى مشاكل تحكيمية كثيرة ولا جدوى من استمراره فى ظل طرق اللعب الشاملة التى تجبر كل فريق على الانتشار الكامل فى كل مساحة الملعب مما يؤدى بالضرورة إلى عدم إغفال أى لاعب من الفريق المنافس يوجد فى نصف ملعب أو منطقة جزاء الفريق الآخر، ولا بأس من إعادة النظر فى اللاعبين الذين يرفعون أيديهم عقب ارتكاب مخالفة وكأنهم لم يفعلوا شيئاً، ثم يعترض بعضهم فى بجاحة شديدة على قرار الحكم، وكذلك الحال فى ضحية الفاولات حين يرفع يده للحكم ويطالبه بإنذار اللاعب المعتدى، كل هذه الأنواع من المخالفات ينبغى أن تكون عقوبتها الطرد حتى تعود الأخلاق والسلوك النظيف لملاعب الكرة، وحتى تصل إلى الجماهير التى تقتدى بسلوك اللاعبين نظراً للشعبية الرهيبة لهذه اللعبة فى كل دول العالم. ويجب كذلك منع أى أداء عنصرى داخل الملاعب مثل سجود اللاعب المسلم وصليب اللاعب المسيحى أو أى شىء من هذا القبيل.
(4)
تعديل قوانين العنف فى لعبة كرة القدم سيؤدى بالطبع إلى فشل قطاع كبير من السادة اللاعبين المحترفين فى الاستمرار بين صفوف الفرق أو الأندية التى يلعبون لها، وهذه النقطة يمكن تجاوزها بإجبار كل أندية العالم على تعديل مسار مثل هذا النوع من اللاعبين بحيث لا يضار أى منهم فى رزقه ورزق أسرته. وأقترح فى هذا الصدد تحويل هؤلاء اللاعبين إلى فرق الملاكمة والمصارعة والكاراتيه والجودو ورفع الأثقال وكمال الأجسام والسلاح.. إلخ إلخ، مع التزام أنديتهم بصرف مستحقاتهم المالية وفق عقودهم كلاعبى كرة قدم، مع إتاحة الفرصة للنابهين منهم للانضمام لفرق الرجبى فى الولايات المتحدة الأمريكية، أو فرق كرة اليد لحين إصلاح شأن هذه اللعبة وإخلائها من الالتحامات والأحضان الخانقة على دائرة المرمى.
هذه الاقتراحات ليست بدعة، فلإخواننا المصريين سوابق فى تعديل القوانين العالمية فى كرة القدم، وأشهرها ما تحقق على يد الكابتن أحمد شوبير والكابتن محمود الجوهرى والسادة لاعبى الفريق القومى المصرى فى نهائيات كأس العالم بإيطاليا سنة 1990، ففى ذلك الحين، وبعد مباراة مصر وأيرلندا التى تفنن كل لاعبى مصر خلالها فى إضاعة الوقت بإعادة الكرة إلى حارس مرماهم كل عدة دقائق ثم يقوم هو بإضاعة دقائق أخرى فى كل مرة من خلال «الحنجلة» بالكرة داخل منطقة الجزاء، قرر الاتحاد الدولى لكرة القدم تعديل قانون اللعبة ومنع حراس المرمى من الإمساك بالكرة حال إعادتها لهم من أى لاعب زميل.
والآن نستكمل جهود «شوبير» و«الجوهرى» وفريق مونديال 1990 ونقدم لـ«فيفا» اقتراحاً بإلغاء العنف والتلاحم والتسلل من قانون كرة القدم عسى هذا التعديل يسهم فى تخفيف العنف وقلة الأدب بين السادة جماهير الكرة فى كل بلدان العالم، وقد تتحول هذه الجماهير إلى كائنات رومانسية مثل إخواننا مشجعى لعبة التنس.