تمر بنا هذه الأيام ذكرى مولد السيدة نفيسة، رضى الله عنها. يحدد ابن كثير فى كتابه «البداية والنهاية» النسب الشريف للسيدة الفاضلة، قائلاً: «هى نفيسة بنت أبى محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب القرشية الهاشمية. كان أبوها نائباً للمنصور على المدينة النبوية خمس سنين، ثم غضب المنصور عليه فعزله عنها وأخذ منه كل ما كان يملكه وما كان جمعه منها وأودعه السجن ببغداد، فلم يزل به حتى توفى المنصور، فأطلقه المهدى وأطلق له كل ما كان أُخذ منه، وخرج معه إلى الحج فى سنة ثمانٍ وستين ومائة، فلما كان بالحاجر توفى عن خمس وثمانين سنة».
وُلدت السيدة نفيسة بالمدينة المنورة وعاشت حياة مريحة مسترخية بفضل منصب أبيها، الذى كان نائباً للخليفة العباسى «المنصور» على المدينة، ولأن الحياة لا تدوم على وتيرة واحدة، فقد انقلب الخليفة على نائبه، ليس ذلك فقط، بل قرّر سجنه ومصادرة أمواله أيضاً، فانقلبت حياة السيدة نفيسة رأساً على عقب. لم يوضح «ابن كثير» ولا غيره من كتاب التراث الأسباب التى أدت إلى هذا الانقلاب، لكنها أشارت إلى أن الأمور اختلفت كثيراً بعد وفاة المنصور وتولى المهدى، فأطلق سراح «الحسن» وأعاد إليه أمواله المصادرة. فهل كانت هناك علاقة خفية بين الحسن والمهدى أدت إلى غضب المنصور عليه؟.
كانت مصر المحطة التالية فى حياة السيدة نفيسة، حين قررت السفر إليها والإقامة بها. يقول «ابن كثير»: «دخلت نفيسة الديار المصرية مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر، فأقامت بها، وكانت ذات مال فأحسنت إلى الناس والجذمى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير». وقد بيّنت لك أن «المهدى» لم يفرج عن الحسن فقط، بل فك الحظر عن أمواله، فعادت إليه. وواضح أن السيدة نفيسة انتقلت بهذه الثروة إلى مصر، فأحسنت إلى الناس، وكانت تركز رضى الله عنها بصورة خاصة على مرضى الجذام، والمرضى بأمراض مزمنة، بالإضافة إلى عموم الناس، فأحبها المصريون، كما تعوّدوا دائماً على محبة من يرفق بهم أو يحنو عليهم.
لم تكن السيدة نفيسة مجرد شخصية خيّرة تجود على المحتاجين والمتعبين، فتمسح جراحاتهم، بل كانت أيضاًَ عابدة متبتلة زاهدة، وكانت من أعلم أهل الأرض بأمور الدين، لذلك لُقبت بـ«نفيسة العلم»، وقد عاصرت الإمام الشافعى خلال فترة وجوده بمصر، وجلس إليها وجلست إليه إحياءً لسنة العلم والتعلم. يقول «ابن كثير»: «ولما ورد الشافعى مصر، أحسنت إليه وكان ربما صلى بها فى شهر رمضان، وحين مات أمرت بجنازته، فأدخلت إليها المنزل فصلت عليه». تواصل عطاء السيدة نفيسة حتى اختارها الله إلى جواره، وشاء زوجها أن ينقلها إلى المدينة ليدفنها هناك، لكن أهل مصر أبوا عليه ذلك. يقول «ابن كثير»: «ولما توفيت نفيسة عزم زوجها إسحاق بن جعفر أن ينقلها إلى المدينة النبوية، فمنعه أهل مصر من ذلك، وسألوه أن يدفنها عندهم، فدُفنت فى المنزل الذى كانت تسكنه بمحلة كانت تُعرف قديماً بدرب السباع بين مصر والقاهرة، وكانت وفاتها فى شهر رمضان».