هزت تفجيرات سريلانكا العالم، وأعادت إليه شبح الإرهاب المقيت الذى تشعبت جذوره فى كل مكان حتى غير المتخيل منها، وصل عدد الضحايا 359 مرشحين للزيادة، والإصابات تجاوزت 500 شخص، معظمهم من السريلانكيين، و31 قتيلاً من جنسيات أخرى منها المقيم ومنها السائح ومنها من كان فى مهمة عمل، ولكل ضحية حكاية روتها الدموع والصرخات والرعب وفى تفاصيلها يكمن الألم والمرارة. إرهاب أصبح مثل الشبح، لا نستطيع الإمساك به، ولم نعد نعرف من أين يأتى. سريلانكا دولة ذات إرث حضارى عريق يمتد عبر ثلاثة آلاف عام، وتُعتبر من المعاقل الأولى للبوذية، وبها كُتبت أولى النصوص المعروفة لهذه الديانة حالياً، هى بلد متعدد الأعراق والأديان واللغات، 70% من سكانها يدينون بالبوذية، والباقى موزعون بين الهندوسيين (12%) والمسلمين (10%) والكاثوليكيين (6%) والبروتستانتيين (1%)، وقد ارتبط وصول الإسلام إلى سريلانكا بوصوله إلى الهند وجزر إندونيسيا من خلال العلاقات التجارية التى كانت تربط العرب بتلك المنطقة.
ما حدث فى سريلانكا يؤكد أن الإرهاب له اليد الطولى فى كل مكان مهما كانت الاحتياطات الأمنية والإجراءات الوقائية وعوامل اليقظة، فهو دائماً يسبق بخطوة. من كان يتوقع أن تمتد يد «داعش» (إن صح تبنّيه للعملية) إلى هذا البلد الذى عانى صراعات عرقية وحرباً أهلية استمرت لثلاثة عقود، فكان بؤرة مشتعلة طائفياً وسياسياً، وتضرب بهذا العمق والقسوة؟ ولماذا اختار «داعش» الانتقام لضحايا مجزرة نيوزيلاندا -كما قيل- من هذه البقعة البعيدة والفقيرة والتى تتمتع بأغلبية سكانية بوذية وتاريخ أسود فى الصراعات العرقية الدموية؟! هل كان يبعث برسالة إلى العالم أنه لا يزال موجوداً وبقوة، وأنه يستطيع الوصول إلى أى مكان فى العالم؟ أم أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد تراجعه فى سوريا والعراق، منشأه الأول وجذوره الراسخة؟
إن «داعش» لا يُعد تنظيماً مركزياً ينشئ فروعاً له فى الخارج عن طريق مبعوثين منه إلى تلك الدول، إنما هو تنظيم يتوسع من خلال نشر الأفكار المتطرفة وانتظار من يلتقط هذا الطعم، فهناك جماعات محلية فى أوروبا وبعض البلدان الآسيوية تجد فى هذا التنظيم المأوى والحاضن الحقيقى لها، لذلك تعلن انضمامها إلى هذا التنظيم وتأخذ ترخيصاً منه لشن عمليات إرهابية باسمه.
إن التجربة الأوروبية تعطى درساً فى هذا الشأن، فكل العمليات الإرهابية التى حدثت فى أوروبا كانت على يد شبان وُلدوا وترعرعوا فى أوروبا وتعلموا فى مدارسها ولم يكونوا أبداً مقبلين من الشرق الأوسط، وهذا ينطبق على بعض التنظيمات المتشددة فى أفريقيا مثل «بوكو حرام»، وينطبق أيضاً على بعض البلدان الآسيوية مثلما يحدث بين الحين والآخر فى باكستان، ما يعنى أن تنظيم الدولة الإسلامية الذى أعلن مسئوليته عن العمليات الإرهابية فى سريلانكا هو تنظيم محلى ويعكس التناقضات والصراعات العرقية فى سريلانكا، سواء الدينية أو العرقية أو الطبقية أو إرث الحروب الأهلية التى خلفت الويلات والمظالم على مر العقود الماضية.
الدرس المستفاد من تفجيرات سريلانكا، وربما ما سيحدث مستقبلاً من ضربات مباغتة وغير متوقعة، هو أن تنظيم داعش عبارة عن أفعى متعددة الرؤوس، وأن انهياره فى العراق وسوريا لا يعنى مطلقاً تراجعه فى ساحات وأماكن أخرى من العالم، طالما هناك من يدعمه ويغذيه مالياً ولوجيستياً ويوجه بوصلته حسب ما تقتضيه المصالح والتوجهات السياسية.