يلومنى البعض دائماً كلما تطرقت إلى مأساة المرور. يقولون «إحنا فى إيه ولاّ فى إيه؟» وجهة نظرهم أن مأساة المرور هامشية سطحية لن تبنى دولة أو تسقط أمة. ويرون أن قائمة المشكلات والمعضلات التى تواجهنا تشكل ما هو أهم وأخطر. البعض من هؤلاء يعتقد أن أزمة المرور تقتصر على ازدحام فى الشوارع، أو إيقاف سيارات صفاً ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً. البعض الآخر لا يراها إلا من منظور إلقاء اللوم على المواطن، حيث «أصله سلوك مواطنين». وللأسف الشديد أن هذا اللوم كثيراً ما يردده البعض من المسئولين عن تطبيق قوانين المرور أنفسهم، معتبرين إياه سبباً منطقياً لما نحن فيه من هراء. والحقيقة أن مأساة المرور الحقيقية لها شقان: الأول هو سلوك المواطن الضارب عرض الحائط بالقوانين، والذى تربى ونشأ وترعرع على الأنانية والاستهتار والإهمال، والثانى هو المسئول الذى يطمئن نفسه أن حال المرور المتردى والسلامة المرورية الصفرية على الطرق ليست مسئوليته، وأن الدماء التى تراق عليها والإصابات التى تحدث والأضرار المادية التى يتكبدها الجميع مسئولية المواطن المهمل الخارق للقانون. ومن المعروف أن من يتعامل مع القوانين باستهانة أو إهانة، فإنه بذلك يساهم فى دفع المجتمع إلى الدرك الأسفل من الفشل، سواء بحسن نية نابعة عن عدم معرفة أو بسوئها، وهذا لا يهم لأن النتيجة تكون متطابقة. أتابع السير العكسى فى كل ركن من أركان المعمورة، بما فى ذلك طرق السفر السريعة وأتعجب. فإذا كان من استباح دمع ودماء الآخرين بهذا التصرف المجرم يعتقد أنه سيخطف بضعة أمتار أو كيلومترات دون مشكلات، فماذا عمن يراقب الطرق من مسئولى مراقبتها، أو ما يراقبها من كاميرات أساهم مع ملايين غيرى من دافعى الضرائب فى ثمنها؟! والمسألة لم تعد تقتصر على سائق سيارة نقل أو ميكروباص لم يحصل على قدر كاف من التعليم والتثقيف - كما يشاع، بل هناك أطباء ومهندسون ومحاسبون وطلاب جامعات يدفع ذووهم الملايين لتعليمهم وباتوا ينتهجون هذا النهج. «المهذبون» منهم يبررون فعلتهم بـ«أصلى ساكن فى آخر الشارع» «أصل اليو تيرن بعيد» «أصل الشارع التانى مكسر» «أصل كل الناس بتعمل كده». ويلجأ «غير المهذبين» إلى سلاح «وانت مالك؟» أو «أنا حر». الحرية الكاملة والشائعة دون حد قانونى يراقبها أو قاعدة أخلاقية تحكمها آخذة فى التمدد والتوغل والتغول حتى أصبحت أقرب ما يكون إلى الأمر المستساغ. فى «مدينتى» مثلاً لا أثر لأى جهة تراقب حركة السير، وهو ما جعل السير العكسى أمراً مستساغاً وطبيعياً، بل ويدافع عنه البعض من السكان، ناهيك بالطبع عن البيتش باجى الطائش والأطفال الذين يقودون سيارات الأهل والـ«أوبر» والـ«كريم» وغيرهما ممن يقررون توقيف السيارات فى الملفات والميادين. وقد وقع أكثر من حادث راح ضحيته أبرياء فى المدينة الهادئة بسبب طيش قيادة وسير عكسى. وفى «الشروق» المتاخمة، حدث ولا حرج. حال السير يضرب يقلب. مواقف عشوائية للسرفيس «التمناية»، سير عكسى، إغلاق شوارع من قبل السكان بتوقيف السيارات أمام بيوتهم وفيلاتهم، ولا وجود لعسكرى مرور واحد فى تلك المدينة الجميلة. وعودة إلى طريق السويس الذى أصبح ينافس أكبر وأفضل الطرق فى مدن عدة. العديد من قادة السيارات يعتبرون الطريق بالغ الاتساع مرتعاً لهم. فكرة الحارة المرورية لا وجود لها. السرعات المحددة محددة على اللافتات وليس للمركبات. أما الكوميديا التراجيدية فهى «بوابات الرسوم» الجديدة، حيث تتحول الأمتار القليلة المؤدية لها إلى حلبة سيارات متصادمة كتلك الموجودة فى الملاهى. الغالبية «تنشن» على بوابة يكون عدد السيارات فيها قليلاً حتى يعاود طيرانه بعدها. والنتيجة أن من كان يسير أقصى اليسار ينحرف عند البوابات أقصى اليمين والعكس، وكأن ربع الدقيقة التى سينتظرها ستقلب أحوال الأمة رأساً على عقب. مفهوم أن مثل هذه التصرفات تعكس غياباً تاماً للثقافة المرورية، وجهلاً كلياً بقواعد السير، وأنانية شاملة حيث شعار «أنا وبس» حتى لو تعرض المحيطون لأخطار مروعة، وتسيباً كبيراً فيما يختص بإصدار تراخيص القيادة، بالإضافة إلى غياب التنظيم من قبل المسئولين. وقبل أسابيع شهدت اعتداء «شاب» يقود سيارة فارهة على سيدة رفضت أن تسمح له بأن يخترق الصف ويتقدم بسيارته أمامها عند البوابة، فما كان منه إلا أن نزل من سيارته وأخذ يخبط على سيارتها معاقباً إياها بأقبح الألفاظ دون أن يتدخل أحد!! مهمة المسئولين ليست تربية المواطنين، لكن تنفيذ القانون. وحين تتحول السيارات التى ينزع أصحابها لوحاتها الرقمية الخلفية، أو يموهون أرقامها لتصبح رقماً آخر، أو يغطون زجاج السيارات الخلفى بعبارات بعضها دينى والبعض الآخر إفيهات من أفلام وغيرها إلى ظاهرة، ويمر أصحابها بسلام وأمان من بوابات ولجان مرورية ويملأون الشوارع بكل أريحية فإن هذا يعنى أن سلوك المواطنين سيئ، وأن تطبيق القانون أسوأ.
مصر تمر بمحن عدة، ولكن التأجيل المزمن لتطبيق القانون يعنى إمعاناً فى ترسيخ قيم البلطجة والإجرام والبلادة وهو ما يفاقم المحن الأخرى.