مثّل الانفجار الهائل فى مرفأ بيروت وتداعياته دليلاً على اختلال التوازن الذى وسم النظام السياسى اللبنانى منذ الاستقلال. فلقد تأسس لبنان على توازن دقيق بين كل القوى والطوائف اللبنانية، ولقد عصم هذا التوازن لبنان لفترة طويلة. بيد أن إقدام إحدى القوى المحلية أو الإقليمية أو الدولية على عدم احترام سمات ذلك التوازن الدقيق، قد أسقط لبنان عدة مرات فى هوة سحيقة إلى أن نجح فى استعادة توازنه العبقرى مرة أخرى. لقد مثّل الميثاق الوطنى اللبنانى عشية الاستقلال فى حينه حلاً وسطاً فريداً حافظ على لبنان مستقلاً وعربياً ومنفتحاً على العالم. ولاحت بوادر اختلال فى التوازن نهاية الخمسينات من القرن الماضى، حيث تأثر لبنان بتطورات كل من الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، والحرب الباردة العربية وتأسيس حلف بغداد، ومارست بعض القوى الإقليمية والدولية ضغوطاً على لبنان للانضمام إلى الحلف، لكن نجح اللبنانيون وأصدقاؤهم الإقليميون والدوليون فى التوصل إلى حل يتسق مع سمات التوازن التى غلبت على السياسة اللبنانية، وحافظ لبنان على توازنه الفريد.
وتعرّض التوازن اللبنانى لاختلال جسيم منتصف سبعينات القرن الماضى بسبب وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة على أراضيه، وتحولها تدريجياً إلى قوة تعمل خارج إطار مؤسسات الدولة اللبنانية، وانزلاقها إلى الدخول طرفاً أساسياً فى أتون الحرب الأهلية اللبنانية التى دامت قرابة خمسة عشر عاماً. وتمكن لبنان من استعادة التوازن من خلال توافق محلى وإقليمى ودولى أنتج اتفاق الطائف فى العام 1989، والذى مهّد لإنهاء الحرب الأهلية المدمرة. وبالرغم من استمرار بعض مظاهر عدم الاستقرار، لا سيما خلال الفترة 1989 - 1992، فقد استعاد لبنان عافيته بسرعة مذهلة، وتمكّن من تجاوز الآثار السلبية الهائلة للحرب الأهلية.
ومثلما كان الوجود الفلسطينى المسلح غير الخاضع لسيطرة الدولة اللبنانية العامل الرئيسى فى القضاء على التوازن واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية فى منتصف السبعينيات؛ مثّل وجود حزب سياسى لبنانى مسلح يعمل خارج سيطرة مؤسسات الدولة اللبنانية، المصدر الرئيسى لإعادة اختلال التوازن، الأمر الذى ينذر باندلاع حرب أهلية مرة أخرى. وكما تسبب سلاح المقاومة الفلسطينية فى اندلاع حربين أهليتين فى كل من الأردن (1970- 1971) ولبنان (1975- 1989)، يهدد سلاح حزب الله «سلاح المقاومة» استقرار وتوازن الدولة اللبنانية. ولسنا بحاجة إلى القول بأن الوجود المسلح يقتصر فى أى دولة على القوات المسلحة وقوى الأمن الخاضعة للمؤسسات الرسمية، ولا يتسق وجود قوات مسلحة «غير رسمية» مع وجود الدولة، ويعرّف أحد أشهر علماء السياسة النظام السياسى بكونه النظام الذى يحتكر الاستخدام الشرعى للقوة المادية، بمعنى أن أى استخدام آخر للقوة المسلحة لا يمكن أن يتسم بالشرعية. تمثلت الذريعة المفضّلة للإبقاء على سلاح حزب الله دون غيره من «الميليشيات المسلحة» التى نشأت إبان الحرب الأهلية فى مقاومة الاحتلال الإسرائيلى. وبالرغم من كون مهمة مقاومة الاحتلال يجب أن تقع على عاتق الجيش اللبنانى، وليس على عاتق «ميليشيا مسلحة» تعمل خارج سيطرة الجيش، وتتلقى التعليمات من حلفائها الإقليميين، وليس من مؤسسات الدولة اللبنانية، وبعد الانسحاب الإسرائيلى من جنوب لبنان، ثم مغامرة حزب الله الفاشلة، بتعليمات من حلفائه الإقليميين عام 2006، تحولت مهمة سلاح حزب الله من مقاومة الاحتلال الإسرائيلى إلى الضغط على القوى السياسية اللبنانية الأخرى، وابتزازها، والسيطرة على مقدرات الدولة اللبنانية. ومن المثير للدهشة استمرار الحديث عن «سلاح المقاومة» الذى يقاوم إسرائيل فى العاصمة بيروت وليس على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. لقد تمكّن حزب الله، مرتكزاً بالأساس على ميليشياته المسلحة، وبالتحالف مع بعض القوى اللبنانية الأخرى، وبدعم حلفائه الإقليميين، من إسقاط حكومات لبنانية، ومن التمديد لمجلس النواب الذى انتهت مدته، ومن منع اكتمال نصاب مجلس النواب لعرقلة انتخاب رئيس للجمهورية لا يرضى عنه الحزب، وإقرار نظام انتخابى على هوى الحزب وحلفائه، أنتج مجلس نواب لا يحقق التوازن المطلوب لاستقرار النظام السياسى اللبنانى.
ومع كل الاحترام والتقدير لمقترحات استعادة التوازن، تتمثل العقبة الكؤود فى استمرار وجود ميليشيا مسلحة خارج سيطرة الدولة اللبنانية. ومن ثم، تكمن الخطوة الأساسية فى استعادة التوازن المفقود، إلى جانب خطوات أخرى تتوافق عليها الأحزاب والقوى اللبنانية، فى حل سلاح حزب الله، وتحول الحزب إلى حزب سياسى فقط، مثله فى ذلك مثل الأحزاب السياسية اللبنانية الأخرى، كحركة أمل وتيار المستقبل والتيار الوطنى الحر والقوات اللبنانية والكتائب والحزب الاشتراكى التقدمى وغيرها. وليس ثمة شك فى قدرة لبنان، قيادات وطنية قديرة وأحزاباً وقوى سياسية متنوعة وشعباً عظيماً ومتميزاً، على استعادة توازنه، وعلى تجاوز أزمته، وعلى تقديم نموذج عربى فريد فى التعايش والتوافق بين الأديان والطوائف والتوجهات المتباينة.
* أستاذ ورئيس العلوم السياسية جامعة القاهرة