علا الشافعي تكتب في وداع وحيد حامد: «يا عين ابكي وبكيني».. أبويا يرحل مرة أخرى
علا الشافعي
لم أعد أجيد فن الرثاء، وتحديداً رثاء الأحبة الذين باتوا يرحلون تباعاً، لم أعد أقوى على صياغة جمل وكلمات تصف ما أشعر به كلما فقدت عزيزاً أو غالياً، رحل الأساتذة والمعلمون عاماً بعد عام، أشعر أن كل واحد منهم يرحل ويأخذ جزءاً من روحى معه، وجاء رحيل أبى لأعرف معه معنى الفقد الكامل لروحك وبعض منك، من يومها لم أعرف التوازن، ولم يعد يفرق معى شىء، ولكن دائماً ما كنت أعزى نفسى بوجود أستاذى ومعلمى وأبى الثانى الكاتب الكبير وحيد حامد الذى وقف بجانبى وساندنى، وكان يأتينى صوته المرهق الواهن ليقول لى «اجمدى، أنا جنبك لو عايزة حاجة».
ماذا أفعل اليوم وأنا أعانى الفقد مرتين، أفقد «أبويا الثانى» المبدع وحيد حامد بعد أقل من خمسة شهور على رحيل أبى، ماذا أفعل وأنا أفقد البوصلة تماماً؟ أردد بينى وبين نفسى: «يا عين ابكى وبكِّينى»، ثم أعود لأسألها: بماذا يفيد البكاء؟ ترد علىَّ: هذا ما تملكين، لتنفتح أنهار من الدموع يصعب أن تتوقف وكل جزء فى روحى يبكى، أنا من فقدَت الاثنين ولم تعرف يوماً كيف تبوح لهما وتعبّر عن مدى حبها وعمقه، ولا كيف كانت تحبهما فى صمت، ولم يتبقَّ لى سوى الوجع والمرار.
لكم وحيدكم
بعضكم سيكتب عن الأستاذ والمعلم، وسينما وحيد حامد، ذلك الفلاح الذى جاء من قريته محملاً بالطموح والأحلام، ومشواره الطويل، وتحوله من الأدب إلى كتابة السيناريو فى الإذاعة والسينما والتليفزيون والمسرح، وكيف أنه بمثابة مؤرخ لهذا الوطن من خلال أفلامه، وكيف كان يملك حساً استشرافياً للكثير من الأحداث التى مرت بنا ولا تزال تعانى منها مجتمعاتنا، وهو ما يجعلنا نعود لمشهد من سينما وحيد حامد، أو جمل حوارية صاغها بعبقرية.. أو عن الفلاح البسيط صاحب الفطرة السليمة والذكاء والدهاء المراوغ فى بعض الأحيان، والذى تحول لمؤسسة سينمائية وفنية متكاملة، يطلق النجوم ويكتشف المخرجين ويدعم الموهوبين، وأيضاً المعلم الذى تخرجت دفعات من معهد السينما على يديه، ستكتبون عن آخر تصريحاته، وأشهر جمله الحوارية ومعاركه التى خاضها.. الكثير يملكه الكاتب المبدع وحيد حامد صاحب رحلة الخمسين عاماً من الإبداع.
ولكننى سأكتب عن وحيد حامد الذى يخصنى، فهو لم يكن فقط معلمى وأستاذى فى المعهد العالى للسينما، ولكنه كان السند، نعم السند، لفتاة جاءت إلى القاهرة وهى لم تكمل عامها الـ18 محملة هى الأخرى بالأحلام والآمال، وكان من السهل جداً أن تتوه فى زحام تلك المدينة، أو يأكلها أسمنت القاهرة الخانق والقابض للأرواح، خصوصاً وأننى فتاة وقد لا أتحمل ما عاناه فى رحلته، أو أتحول لنموذج يرفضه.
كان يدرك تماماً منذ الحظة الأولى للقائنا أننى جئت من براح يشبه البراح الذى جاء منه، ولذلك ضحك كثيراً عندما أخبرته أننى أتمنى أن أحقق حلم «أبويا»، أن أكون صحفية شاطرة، خصوصاً أننى لا أملك وساطات فى هذا المجال.
لم أنسَ أبداً نظرتك لى فى هذا اليوم وكأنك تطبطب على روحى وتحاول أن تطمئننى، ثم سرحت بنظرك بعيداً ونحن نجلس على مائدتك المفضلة فى الفندق الذى يطل على النيل وتلك الزاوية التى يتسع فيها النيل.
منذ ذلك اليوم فى عام 1994 أى من حوالى 27 عاماً كنت السند ولم تخذلنى يوماً ولم تتركنى نهباً لتجارب صعبة، وجعلتنى لا أستسهل شيئاً، بل علمتنى أن أعافر وأعافر، حتى بعد أن خيَّبت أملك فى كتابة السيناريو، حيث كنت ترانى من الموهوبين بين طلابك لأن الصحافة أخذتنى كما كنت تقول لى دائماً، ولم أنسَ ذلك اليوم الذى كلمتنى فيه بانفعال: «يا بنتى عمالة تنكشى عشان تلاقى حباية قمح، وانتى قدامك كوم قمح»، فأرد ضاحكة لأقلل من انفعالك: «فاشلة يا أستاذ فاشلة، بس أوعدك حنين بنتى تكبر وهحاول أرجع تانى»، تفاجئنى مبتسماً: «دى حجة البليد يا خايبة».
لم ولن أنسى كم مرة جريت عليك أستشيرك فى كل ما كنت أمر به فى حياتى الشخصية والمهنية، كنت مثل أبى تماماً، تكره أن ترى دموعى تتساقط أمامك وأنا أروى لك عن أزمة أمر بها، كانت عيونك تهرب منى وتعود لتقول لى بحزم: «علا انتى قوية وجامدة مش عايزك تعيطى قدامى، كل حاجة هتتحل»، وبعد كل حديث معك كنت أشعر بالراحة، وكيف لى ألا أشعر بها وأنت السند والداعم؟!
لن أنسى يا أستاذ عندما أوكلت لى مهمة قراءة سيناريوهاتك وما تصوغه من إبداعات، بحجة أنه يتم جمعها فى هذا الوقت بالآلة الكاتبة، وكان علىَّ أن أكتشف الأخطاء ليعاد تصحيحها، أو البحث عن كتب أو مادة تحتاج إليها عند صياغة أعمالك، وكيف كنت تترك لى مهمة قراءة ما يعرضه مَن يظنون فى أنفسهم الموهبة من مشروعات سيناريوهات، وتطالبنى بأن أكتب لك تقريراً مفصلاً عن المعالجة والبناء الدرامى، وتمازحنى: «هشوف تعليمى ليكى فلح ولا لا» فى محاولة أن توفر لى عملاً، حتى لا أتعرض لأى ضغوط من أراذل المهنة، كما كنت تطلق عليهم، وهم بالطبع «المتحرشون» بلغة هذه الأيام.
لن أنسى كيف يكون الصباح مختلفاً عندما كنت أمر عليك أشرب القهوة معك، ونتبادل الحديث فى كل شىء، تحكى لى الكثير عن طفولتك فى «منيا القمح»، عن الليالى التى كنت تنام فيها فى أسانسير إحدى العمارات فى وسط القاهرة لأنك لا تملك مالاً، عن الحارة الضيقة التى سكنتها فى السيدة زينب، عن أول أجر حصلت عليه، وعن قصص الحب العابرة، وعن اللحظة التى قررت فيها أن تتزوج رفيقة عمرك وسندك الإعلامية زينب سويدان.
على مائدتك تعرفت بالكثيرين من نجوم وصنّاع السينما، وتعلمت من كل الأساتذة.. الذين كنت قبلتهم.
كان هناك الكثير والكثير لنرويه، فلماذا تركتنى أنت أيضاً، كنت أعرف أن يوم تكريمك فى مهرجان القاهرة هو يوم الوداع، تمنيت أن أقف لأتحدث عنك مثل الآخرين، وأن أقول لك كل ما سبق وأكثر، ولكننى لم أقوَ على فعل ذلك، واكتفيت بانتظارك فى كواليس المسرح لأشاهدك وأنت تجلس على كرسيك المتحرك، الذى كان يدفعه وحيدك مروان، لأنحنى أقبّل رأسك ويديك، فتنظر لى نظرتك الأخيرة، وكأنك تودعنى: «عيب يا علا.. وخدى بالك من نفسك».
فى مشهد جنازتك أصادف محبيك، وأنفجر فى البكاء عندما يقول لى الكاتب عاصم حنفى «أبوكى الثانى مات، مش كنا متفقين نتقابل عنده السبت؟! أهو جمعنا».
تحملك السيارة بعيداً عن نظرى، ولا أملك سوى أن أصرخ: «مع السلامة يا أستاذ».