صبري عبد العزيز، موظف على المعاش وإمام وخطيب متطوع
قلب القاعدة رأسا على عقب، وحقق «عم صبري» الحديث الشريف «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، بإصراره وصبره على تحصيل العلم، ومواصلة تعليمه بعد حصوله على الإعدادية قبل 44 عاما، حتى نال درجة الماجستير، متجاوزا عبء الـ60 عاما التي يحملها في بطاقته وملامح عمره، جلس وسط زملاء يكبرهم بعقدين وربما 3، استفادوا من خبراته واعتمد عليهم في تحصيل ما لم يتمكن من إدراكه، ودرّس له أساتذة يصغرونه في السن، جلس أمامهم في محراب العلم ينهل من خبراتهم، طالبا للعلم لمجرد العلم، فلا وظيفة يرغب بها ولا ترقية يسعى للحصول عليها.
قبل 44 عاما، حصل صبري عبدالعزيز على الشهادة الإعدادية من محافظة الشرقية، وكانت آنذاك «شهادة كبيرة» لا يحملها كثير من أبناء جيله، لكنّ شغفه بالعلم وحرصه على النهل منه لمواكبة التطور وتوسيع آفاقه ومداركه، دفعه للوصول إلى أعلى المراتب والشهادات، فواصل تعليمه وحصل على دبلوم التجارة عام 1976، لكنه وجد أنّ التعليم الفني لم يرض نهمه في المعرفة، فالتحق بالثانوية العامة، وانطلق بعدها في رحلة تعلم استمرت معه طوال عمره.
يدرس «عم صبري» هو وأبناءه وأحفاده سويا، كل في تخصص مختلف: «عندي 3 بنات، واحدة مهندسة ودي طالعالي في العلم، والتانية بكالوريوس تجارة، والتالتة دبلوم صنايع».. قال «عم صبري»، متابعا أنّ لدية 5 أحفاد، أكبرهم في الصف الأول الثانوي، وأصغرهم في الصف الأول الابتدائي.
صبري: لما قدمت على الثانوية خبطتني عربية وقعدت سنتين ماشي على عكاز
تعرض «عم صبري» لحادث سيارة اضطره للجلوس في المنزل عامين، حين كان في طريقه إلى مدرسة قريبة منه، لتقديم طلب الالتحاق الثانوية، يقول: «كانت حادثة عربية ورجلي اتصابت، ولحد دلوقتي بمشي بعكاز»، لم تضعف الإصابة همّته ولم تعترض طريقه لكنها «عطلّته»، فدرس «ثانوية عامة منازل»، وفي هذا الوقت حصل على وظيفة بوزارة الإنتاج الحربي، وقرر الاستمرار في الدراسة بحضور «كورسات حرة» متخصصة في العلوم الدينية، حتى تأتيه فرصة للالتحاق بالجامعة: «دخلت كلية دار العلوم في جامعة القاهرة وأنا عندي 55 سنة».
حصل على شهادة الليسانس في العام 2018، وهو ذات العام الذي وصل سنه فيه إلى 60 عاما، فأحيل إلى المعاش بعدها بشهر واحد، بعد ترقيات متتابعة في وظيفته، كان آخرها «كبير كتاب بدرجة مدير عام».
بعد حصوله على الليسانس، لم يتوقف عن النهل من العلم، كان يفكر عكس أقرانه ممن هم في سنه، وتجاهل مقولة «راحت علينا، هنعمل إيه بالشهادات في السن ده؟»، فالتحق بالدراسات العليا في ذات الشهر الذي تخرج فيه من الجامعة: «طلعت من جامعة القاهرة وخدت الشهادة وروحت بيها على المعهد العالي للدراسات العليا في الزمالك».
بتقدير «جيد جدا»، اجتاز «عم صبري» مرحلة «تمهيدي الماجستير» في تخصص الشريعة الإسلامية، وما زال مستمرا في الدراسة، كما يعمل إمام وخطيب متطوع: «من صغري كان نفسي أكون خطيب في وزارة الأوقاف».
«عم صبري» أكبر عمرا من مدرسيه
كان صبري المولود عام 1958 أكبر الدراسين سنا، وفي بعض الأحيان كان يكبر مدرسيه أو يقترب منهم في السن، وكانوا يرونه نموذجا: «دكتور النحو قال لي انت أفضل من أي حد».
يتعجب كثيرون من الجهد الذي يبذله في سبيل العلم: «زمايلي بيحترموني وبيتواصلوا معايا عشان لو في محاضرات أو شرح فاتني لأني مبروحش الكلية باستمرار، كانوا عاملين جروب على فيس بوك وواتس آب وبينزلوا عليه المحاضرات والملازم، بس كانوا ديما يسألوني ليه بتعلم في السن ده وأنا مش محتاج شهادة»، ليجيب «عم صبري» عن سؤالهم: «معظم الجيل ده علاقته بالتعليم هي الوظيفة، فكانوا بيقولوا لي بتمتحن ليه؟، وهتعمل إيه بالشهادة؟، كنت بقولهم أنا بتعلم من أجل العلم، أنا موظف فهل هكون عايزة وظيفة تاني؟، لأ طبعا».
يروي «عم صبري» موقف آخر، عقب انتهائه من امتحان إحدى المواد الدراسية بالمعهد العالي للعلوم الإسلامية، حيث غلّبه الإرهاق فأخرج له الموظف كرسي يستريح عليه، وحينها سأله زملاءه: «بتعمل في نفسك كده ليه؟»، فقلت لهم: «عشان أتعلم وأعلق الشهادة على الحيطة، أنا أعرف دكاترة وناس معاها شهادات بيشتغلوا بره في مطاعم».
التطور السريع الذى يعيشه المجتمع بفعل التكنولوجيا الحديثة، كان أحد الأسباب التي دفعت صبري للتعليم، فلم يسع وراء ترقية أو مكانة أعلى: «عاوز أفهم العلوم الجديدة، الإنسان الجاهل زي الميت، لما الإنسان يقرأ ويتعلم بيكون مع الأحياء بعلمه، ولو علمه مزادش بيبقى جاهل».
ورغم تقدمه في السن إلا أنّ استجابته العقلية لم تتأثر ولم يواجه الصعوبة التي يتوقعها الكثيرون في هذا السن، خاصة أنّه اختار دراسة موضوعات تشغله: «دايما العقل البشري لو متنشطش بيركن، وحياة الإنسان العاقل في الكتاب، و(من وضع الكتاب والقلم فقد دفن نفسه)».
حصل على الليسانس في 5 سنوات، وهي المدة المحددة للدراسة بتقدير «جيد»، ولم يرسب في مادة منها باستثناء «الشعر الجاهلي»: «في التعليم المفتوح بندرس كل ترم 5 مواد، ومادة الشعر الجاهلي كانت صعبة».
3 ساعات يقضيها صبري في المواصلات من 15 مايو للذهاب إلى المعهد في الزمالك
رحلة «عم صبري» بين مواصلة التعليم بما يتطلبه من حضور المحاضرات والمذاكرة، ووظيفته، ودوره التربوي باعتباره رب أسرة تضم زوجة و3 أبناء هو العائل الوحيد لهم لم تكن سهلة، حيث يقطع مسافة يوميا من مدينة 15 مايو محل سكنه إلى الزمالك كانت تستغرق 3 ساعات على الأقل، ويستقل أكثر من وسيلة مواصلات، لكنه استعان على الصعوبات بعمل ما يحب وما ينفع: «هي حياتنا إيه ورسالتنا إيه غير الورقة والقلم؟، طالما أنت بتعرف تقرأ وتكتب تبقى مسؤول ولازم تتعلم وتتطور».
بعد خروجه على المعاش، يقضي «عم صبري» 90% من يومه في القراءة، ولا يشغله عنها سوى صلة الرحم: «عندي مكتبة في البيت فيها حوالي 2000 كتاب في جميع أنحاء العلوم والمعرفة، وعمري ما انشغلت عن ورد المذاكرة اليومي».
يؤمن «عم صبري» بأنّ من يقرأ ويكتب لا يدع القلم أو القرطاس إلا على سرير الموت، وتشجعه زوجته وأبنائه على التعليم والقراءة: «معنديش مشروع بشتغل عليه ومكتفي بالمعاش، بقضي وقتي مع أحفادي وأولادي لما يكونوا عندنا، وبصل رحمي، وبقرأ».
تعليقات الفيسبوك