عبد المنعم شفيق.. قلوبنا ثَكالى يا شهيد «النعش الطائر»
حسين البدوي
اعتدت خلال زيارتي لمنزل العائلة، أن أقف كل صباح في شرفة تطل على بيوت الجيران المتلاصقة، أتذكر حين كنا صغارا، وكيف أصبح الحال بعد أن تبدل سكان الشارع على خلفية انتقال بعضهم للسكن في بيوت جديدة، ألملم ما تبقى من ذاكرتي القصيرة وأزيح عنه الغبار وأطويه في أدراج العمر.
لسنوات طويلة، ظللت أسافر ثم أعود، وفي كل مرة أقابل فيها أهل بلدي أشعر وكأنها الأخيرة، وكأنني أودع أحدهم، أو أنهم جميعا يودعونني، سنوات تخللها فقدانات كثيرة من الأهل والأصدقاء وزملاء الدراسة والجيران، رحلوا وتركوا جميعا قصصا نقصها ونرويها وذكريات خالدة في قلوبنا لن تموت.
عبد المنعم شفيق الحنفي كان أحدهم، الشاب العشريني الذي فارق دنيانا على حين غفلة، ودفع حياته ثمنا لـ«الموتوسيكل» أو «النعش الطائر» الذي يحصد أرواح الشباب يوماً تلو الآخر دون رحمة، بينما يرقد رفيقه الآن في المستشفى يعاني إصابته التي لم يتعاف منها بعد.
طريقة الوداع التي تركنا بها الشاب عبد المنعم ليست بجديدة، ولا هي المرة الأولى التي نفقد فيها شبانا في زهرة عمرهم، ولكن هذه المرة كان من اللافت ما قام به الأهالي من تزيين الشوارع بأسلاك النور الأبيض لوداع «العريس»، والحزن الذي خيم على بيوتنا جميعاً، والجنازة المهيبة التي شارك فيها المئات فجراً.
ولعل السؤال الذي يجب أن نتوقف أمامه جميعنا الآن، إلى متى سنظل واقفين متفرجين نسقي بدماء أبنائنا الطاهرة حبات الأسفلت الأسود، إلى متى ستظل أقسام الطوارئ بالمستشفيات مكتظة بالصبية والشبان ضحايا هذه الحوادث التي تزيد في مواسم الأعياد التي تكثر فيها الأفراح.
والأدهى أن أغلب سائقي «النعش الطائر» لا يرتدون خوذات الرأس الواقية، ولا يلتزمون بتعليمات المرور، وصحيح لا توجد إحصائية رسمية أو تقديرية لضحايا حوادث الموتوسيكلات في مصر، لكن التقديرات تشير إلى أن عدد الوفيات يسجل آلاف سنويا، بجانب الآلاف من المصابين، ما يؤدى إلى إهدار مليارات الجنيهات من الناتج القومى سنوياً.
وهنا أشير إلى بعض الحقائق الصادمة عن الإصابات الناجمة عن حوادث المرور حول العالم، والتي أعلنتها منظمة الصحة العالمية؛ حيث يلقى نحو 1.25 مليون شخص سنوياً حتفهم نتيجة لحوادث المرور، ويتعرض ما بين 20 مليون و50 مليون شخص آخر لإصابات غير مميتة ويصاب العديد منهم بالعجز نتيجة لذلك، وتمثّل الإصابات الناجمة عن حوادث المرور السبب الأول لوفاة الأشخاص البالغين من العمر من 15 إلى 29 سنة.
ولفتت منظمة الصحة العالمية على موقعها الرسمي إلى أن هناك أنواع عديدة من مشتتات الانتباه التي يمكنها أن تؤدي إلى اختلال القيادة. ويمثل تشتت الانتباه الذي تتسبب فيه الهواتف المحمولة مصدراً متنامياً للقلق بشأن السلامة على الطرق، فالسائقون الذين يستخدمون الهواتف المحمولة، يتعرضون أكثر من غيرهم بأربعة أضعاف تقريباً لمخاطر حوادث المرور.
ورغم ذلك فإن استعمال الخوذ الواقية بالطريقة الصحيحة عند ركوب الدراجات النارية، يؤدي إلى الحد من مخاطر الوفاة بنسبة 40% تقريباً، ومن مخاطر التعرض للإصابات الخطيرة بنسبة تزيد على 70% -بحسب منظمة الصحة العالمية.
وبناء على ذلك، يتطلب على أجهزة الدولة التدخل العاجل بشأن «فوضى الموتوسكلات» لتنظيم قيادتها والحد من وقوع مثل هذه الكوارث، خاصة وأن أغلب من يقودها تحت السن القانونية، كما يتطلب ذلك مشاركة قطاعات متعددة مثل قطاعات النقل والشرطة والصحة والتعليم، فضلا عن الدور المهم للأهالي في الحرص على أرواح أولادهم وإرشادهم وعدم السماح لهم بتجاوز القوانين.
وفي الأخير نسأل الله أن يحفظنا ويحفظ أولادنا وأحبائنا، وأن يربط على قلوب أهاليهم بالصبر والرضا، صحيح أن الموت منتهى كلِّ حي، ولكن أصعب الأمور أن تشعر أن هنالك من ينتزع ضناك من بين عظام صدرك، ليترك جرحا لا يلتئم، ولا تدري متى السبيل. يترك الموت قلوبنا ثكالى وعقولنا مترملة ويسرق منا الحاضر والمستقبل، ويتركنا لغربة الدار كلوح عائم من الثلج يذوب في بحر الترجي، ويبقى القلب مقطوع اللسانِ، نستجدي الصباح ويأتينا المساء غريب يرثي حالنا قبل احتضارنا، ننظر لا نرى أحداً جوارنا.