«نوبة الصحيان» فى الفجر والنوم بعد العشا
فى خيمة قريبة، يقيم حسين حمدان، الوافد من العريش، مع 7 عمال يشغلّون سياراته التى دفع بها إلى المشروع، ويقوم «حمدان» بدور الطباخ بإعداد الإفطار لعماله. إفطار خيمة «حمدان» ذو نكهة سيناوية، حيث يتكون من سلطة الباذنجان وسلطة بزيت الزيتون إلى جانب الفول والبيض.
يوم شاق
الساعة السادسة، يتوالى انضمام السيارات واللوادر إلى أعمال حفر اليوم الجديد. تتصاعد أصوات المحركات وتتهدج السيارات بمن فيها على مدقات غير مستوية تماماً. ممازحاً يقول أحد العمال: «ركوب العربية وهى بتتهزهز كدة يجوّع».
تتنوع المهام التى يؤديها العمال، فمنهم سائقو اللوادر الذين يغرسون أظافر لوادرهم فى بطن الرمال كى ينتزعوا منها بعضها ويكوّمونها فى صناديق سيارات النقل الثقيل، ومنهم سائقو النقل المتلخصة مهمتهم فى نقل كميات الرمال بقدر سعة صناديق سياراتهم من المحاجر التى تقع فى المجرى المخصص للقناة الجديدة، ومن ثم تفريغها فى المقالب التى حددتها الإدارة الهندسية بالجيش.
يحتج فهمى محمد، سائق أحد اللوادر، من الزحام الذى يحد من الحركة أحياناً كثيرة، وفق تعبيره، أمام المقالب: «أنا وظيفتى عند المقلب إن العربية لما تفرغ نقلتها أساوى النقلة بالأرض علشان العربيات اللى بعدها تفرغ.. لكن الموضوع بقى بيسبب مشاكل.. وعاوزين نعمل حاجة جديدة تخفف الزحام المتكرر فى كتير من المقالب، ولولا إن زميلنا أبوزياد، كتر خيره، بيجيلنا يرتب العربيات كانت الدنيا اتعكت».
«أبوزياد»، كبير الملاحظين لدى إحدى الشركات، تتلخص وظيفته فى تدوين عدد النقلات التى نفذها كل سائق سيارة ليتسنى للشركة محاسبته.. لكن دور «أبوزياد» يتخطى ذلك: «أنا مسئول هنا عن الكتبة اللى بيعدوا للعربيات واللوادر عدد النقلات اللى بيشتغلوها، ولو حصلت مشكلة فى العربيات بتبقى مسئوليتى ألاقى لها حل».
الكتبة أو الملاحظون هم مجموعة من العمال منوط بهم تسجيل كم إنتاج السائقين، وابتكرت بعض الشركات آلية لحساب كم الإنتاج بشكل أكثر دقة. يقول أحمد رشيدى، ملاحظ، إنه يقوم بتدوين كل نقلة يقوم بها كل سائق، وإضافة إلى ذلك فإن الشركة قامت بطباعة كروت بلاستيكية وتعطى كل سائق كارتاً مقابل كل نقلة يقوم بها، لكى يوافق عدد الكروت فى حوزة كل سائق عدد النقلات التى قام بنقلها.
راحة مؤقتة ووجبة دسمة
جففت شمس أغسطس ريق العاملين الذين أعلنت الساعة الواحدة بقاءهم فى العمل لنحو سبع ساعات متواصلة. يمد أحد السائقين يده إلى زجاجة المياه ليبل ريقه، لكنه يعيدها إلى مكانها مرة ثانية لفرط سخونتها، وشدة ملوحتها. بُحَّ صوت عبدالحميد أبومسلم، أحد المقاولين بالموقع، لكثرة الصياح أثناء توجيه العمال الذين يعملون تحته، يقول «عبدالحميد»: «أكبر مشكلتين هنا هما الميّة والجاز، علشان نشرب ونموّن عربياتنا ولوادرنا.. لكن نأمل إن المشكلة دى مع الوقت تتحل».
تبدأ فترة الراحة من الساعة الواحدة ولمدة ساعة، يتناول العمال خلالها وجبات الغداء، نضجت وجبة البامية التى أعدها السيد محمد، الطباخ، لأكثر من عشرين عاملاً متأهبين للأكل: «الغدا بيبدأ من الساعة 1 أو 2 بالكتير وبيكون عبارة عن رز وخضار ومعاه لحمة أو فراخ»، يقول السيد.
يتوقف العمل ويعود العمال إلى خيامهم للأكل وأخذ قسط من الراحة، ويقل الضجيج الناجم عن محركات المعدات والعربات. ينظف حسين حمدان، صاحب سيارات، دجاجتين لطهوهما وتقديمهما للسائقين فى الغداء. ووفق «حسين» فإنه يحرص أن يشتمل الغداء يومياً على أكل دسم «يوم فراخ ويوم لحمة لأن السواقين اللى معانا بيتعبوا وكمان ما نرضاش إن حد يقول علينا بخلا»، يضحك «حمدان» الذى يمرر الدجاجة على النار بعد نتف ريشها لحرق الريش المتبقى ثم يمرش الدجاجة بنصف ليمونة بيده.
شكاوى العمال من نوعية المياه وجودة الأطعمة كثيرة، يقول «أبوزياد»، كبير الملاحظين بإحدى الشركات، إن «أكبر مشكلة هنا هى مشكلة الميّة.. لكن كل مقاول أو كل شركة بتحاول تتفاداها بإنها تجيب تانك ميّة أو عربية ميّة كل يومين تلاتة.. وطبعاً بتكون ميّة فيها ملوحة عالية».
يقول محمد عبدالباقى: «الموقع مفيهوش شربة ميّة واحدة كويسة، وعلشان تشرب ميّة نضيفة لازم تروح القرى اللى جنب الموقع». ويصف السيد عبدالعزيز، المهندس التنفيذى، مياه الشرب التى يتيحها المقاولون بأنها «غير آدمية»، ويضيف محمد كمال، سائق لودر، أن «الميّة فى الموقع لونها أصفر وما تتشربش».[FirstQuote]
سجلت عربات الإسعاف بموقع حفر القناة استقبال حالات مغص كلوى، يرجع أحد المسعفين سببها إلى رداءة المياه وزيادة الأملاح بها، وهو ما يكرره العمال بالموقع.
يرفع أحد العمال أذان صلاة الظهر، ويصطف العمال داخل خيمتهم لأداء الصلاة. ويؤمهم فيها أكبرهم سناً. وبعد الصلاة يحث مسئولو الحفر لدى كل شركة العمال على سرعة العودة إلى العمل ثانية.. وسط قفشات وضحكات من العمال الذين يسخرون من كل شىء: «خلاص أكلنا من حضرموت»، و«نقيتوا الرز من الحصا وانتوا بتاكلوا؟».
العمل مجدداً
العودة إلى العمل مجدداً، ولكن لفترة أقل، أربع ساعات فقط، بين الثانية ظهراً والسادسة مساءً. ولا تدخل كل أعمال النقل فى صلب المشروع الذى تشرف عليه القوات المسلحة، فأحياناً يُضطر العمال والمقاولون إلى عمل مدقات يجلبون لها طَفلة رملية مخصصة لا تتوافر فى كل الأماكن، ويفرشونها أولاً بطول الطريق بين المحجر، الذى يقع فى نطاق قطاع الشركة المتعاقدة مع الحكومة، والمقالب، التى تحددها القوات المسلحة للشركات. وتكون هذه المدقات بعرض كافٍ يسمح للسيارات بالمرور فوقها.
يوجه محمد مدحت عليان السائقين الذين يعملون لدى والده، إلى أماكن الطَفلة الرملية اللازمة لعمل المدقات، ويصيح بصوت عالٍ: «ما تاخدوش من الرملة الناعمة»، مؤكداً أن الرمال الصفراء المنتشرة تتعثر فيها سيارات النقل وتغرز. ويضيف «عليان» أن «الطَفلة اللى بناخدها نفرشها فى الطريق بتكون على حسابنا، الجيش مش بيحاسبنا عليها، يعنى مش داخلة فى المقاولة».. والمشكلة كما يقول «عليان» أن «الطَفلة مش موجودة فى كل مكان، فممكن نجيب طَفلة من مكان بعيد جداً عن المواقع بتاعتنا».
أصيبت سيارة عبدالظاهر عطا، أحد السائقين الوافدين من شبرا، بعطل أخرجها من العمل لحين تصليحها، يقول السائق: «العربيات مش دايماً بتعطل، لكن بيكون فيه حاجات ومكونات لها عمر افتراضى بتتلف، فالعربية بتعطل»، ويضيف «عطا»: «قلة الميكانيكية هنا مشكلة، خصوصاً مع المقاولين اللى مش جايبين معاهم ميكانيكية».
محمود عساسى، ميكانيكى مرافق لسيارات إحدى شركات المشروع، يقول: «الشركة جابتنى علشان مفيش ميكانيكية فى المكان، وعلشان أشوف لو أى عربية عطلت أدورها، لكن الحمد لله أكتر المشاكل فى العربيات بتبقى فى الكاوتش ومفيش أى أعطال تانية بتحصل».
البحث عن الماء
درجة الحرارة تقترب من الأربعين درجة مئوية، تتطاير الرمال على السائقين والعاملين، شعور وشفاه جافة، وملابس متسخة متربة، اقتربت الساعة من السادسة، ومع نهاية يوم العمل يحتاج العمال للاستحمام.
يشكو «إبراهيم»، المحاسب بإحدى الشركات، من عدم وجود أماكن للاستحمام داخل الموقع: «إدارة الموقع بيقولوا وصّلنا كهربا وعملنا حمامات، الكلام ده غير صحيح مفيش إلا الحمامات الموجودة عند المنصة ومش مسموح للعمال دخولها إلا بتصريح.. بالذمة هروح آخد تصريح علشان أدخل الحمام»، يسخر «إبراهيم» مضيفاً: «العمال هنا بيقضوا حاجتهم فى الخلا ورا ساتر صغير من التراب عاملينه بارتفاع متر».
يقول السائق يونس شوقى: «مش بنلاقى ميّة فى موقع الحفر، وكمان مفيش كانتين أو مطعم أو قهوة ناكل فيها، فكل سواق بياخد بعضه ويطلع على قرية جنبنا يتشطف وياكل ويرجع ينام فى الموقع».[SecondQuote]
ترك السيد محمد موقعه فى مطبخ الشركة التى يعمل لديها بعدما انتهى من تحضير وجبة العشاء للعمال الذين غادروا مواقع الحفر: «بنسلم الوردية الساعة 5 بعد ما بنعمل الأكل بتاع العشا».
النوم بين العقارب
يستقر العمال فى خيامهم بعدما يدخل الليل، لا تدوم جلسات السمر طويلاً بسبب الإنهاك من العمل الشاق فى الشمس.
يخشى العاملون بالموقع، ممن يبيتون على الرمال أو داخل خيام، من انتشار العقارب والزواحف السامة. يعلن المستشفى الميدانى وجود حالات لدغ بالعقرب والثعابين، وهو ما دفع عمالاً كثيرين إلى الشكوى من عدم ملاءمة أماكن النوم لهم. تعرض محمود رجب، أحد السائقين، للدغة عقرب بسبب النوم على الرمال فى وقت الراحة الليلية. ويقول: «محتاجين كرافانات للنوم أو عنابر حتى؛ لأن دى نومة غير آدمية».
يسعى بعض العمال للعثور على أماكن نوم أكثر أماناً، بعيداً عن لدغات العقرب أو الأمراض الجلدية التى تأتى إما من ملوحة مياه الاستحمام أو من النوم على الرمال. محمد عساسى، الميكانيكى، ينام داخل إحدى السيارات بعدما يطمئن أولاً إلى أنه لا توجد أى أعطال تستدعى الصيانة.
يطالب سليمان محمود، الكاتب لدى إحدى الشركات، بتوفير إنارة ليلية لإبعاد العقارب عن أماكن النوم، ويقول: «الكهربا مهمة جداً وعندنا مشكلة فيها، محتاجينها نبعد بيها العقرب وكمان نشحن موبايلاتنا وتليفوناتنا علشان نكلم منها أهالينا وأسرنا نطمن عليهم ويطمنوا علينا». يردف «سليمان»، ويضطر أحياناً إلى الذهاب للقرى المجاورة لشحن الموبايل.
الوردية الليلية
يتولى سائقو وعمال الوردية الليلة مهام الحفر بدءاً من التاسعة مساءً وحتى الرابعة أو الخامسة فجراً، وتدور نفس أحداث الوردية الصباحية فى المساء ولكن فى خلفية ليلية. بنفس المشكلات ونفس التفاصيل.
ملف خاص
«دولا ولادنا الشقيانين»
«العقارب والألغام والعفاريت» اللى يخاف ما يشتغلش
«إيه اللى رماك على الحفر؟» بسبب «وقف الحال» ومن أجل الزواج والديون
من قلب «خيمة مجهزة» المسعفون: إحنا اللى بنعالج العمال
من جاور السعيد.. يُرزق
عمال يشكون عدم تقاضى رواتب: ما خدناش «نكلة» من 3 أسابيع