كلما انفجرت فضيحة على وسائل التواصل الاجتماعى، أو انتهت جلسة تحقيق شعبية بمذبحة أو كارثة، تذكرتُ على الفور قصة «الشيخ شيخة» للدكتور يوسف إدريس.
و«الشيخ شيخة»، كما تصفه القصة، «كائن حى لا يمكن وضعه مع أناس بلدنا وخلقها، ولا يمكن وضعه كذلك مع حيواناتها.. كائن قائم بذاته لا اسم له، أحياناً ينادونه بالشيخ محمد، وأحياناً بالشيخة فاطمة.. والحقيقة أنه ظل بلا اسم ولا أب ولا أم، ولا أحد يعرف من أين جاء ولا مَن أورثه ذلك الجسد المتين البنيان».
وهذا الكائن الحى الذى احتار أهل البلدة فى تحديد جنسه، ذكر هو أم أنثى.. إنسان أم حيوان.. عاقل أم لا يعقل شيئاً على الإطلاق.. انتهى به الأمر إلى أن يعيش وسط الناس وكأنه جزء أساسى من نظام الكون، لا اعتراض لأحد على وجوده طالما أنه لا يؤذى أحداً. «وسنين طويلة قضاها الشيخ شيخة فى البلد على هذه الحال، والناس قد أحلوه من كل واجبات الإنسان والحيوان والنبات وتركوا له كل حقوقها، إذا شاء وقف كالنبات وتسمَّر، وإذا شاء فحَّ كالحيوان، وإذا شاء تحرك من تلقاء نفسه كإنسان إلى أى مكان يريد، لا يزجره أحد، ولا يعترض طريقه أحد، ويدخل أى بيت ويظل قابعاً فى أى ركن فيه ما يشاء من الوقت، دون أن يضايق وجوده أهل البيت أو حتى يحسوا له وجوداً، وكأنه يصبح إذا حلَّ جزءاً من المكان أو الزمان أو الأثير، تتعرى النساء أمامه، وكذلك يفعل الرجال، وتتحدث العائلات عن أخصِّ شئونها فى حضرته، وينام الرجل مع زوجته أو مع غير زوجته، وتُدبَّر أمامه المكائد.. ويقول الهامس للآخر حين يريد أن يطمئنه كى يفتح له صدره، قول يا أخى ما تخافش.. هو فيه إلا أنا وأنت والشيخ شيخة؟».
هكذا ظل الشيخ شيخة يعيش بين أهالى القرية دون أى خوف من وجوده، لأنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم.. وحتى عندما سرت إشاعات بأنه على علاقة مريبة بامرأة تسكن خرابة القرية.. وعندما قال البعض إن «نعسة» ساكنة الخرابة هى أمه التى أنجبته من رجل فاسد الدم من أهل البندر.. كانت هذه الحكايات تتردد لفترة ثم تموت، دون أن تغير شيئاً من تعامُل الجميع مع الشيخ شيخة، فقد ظل السارق يسرق فى وجوده وهو آمن تماماً، وظل رجال يرتكبون المعاصى وهو حاضر دون أدنى خوف من حضوره، حتى إن المرأة كانت تخون زوجها، والرجل يخون زوجته، والشيخ شيخة واقف على مقربة من الجميع وكأنه جماد لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم.
وكان من الممكن -كما تقول القصة- أن يظل الشيخ شيخة يحيا فى بلدنا، يمثل شخصية الحاضر الغائب.. لولا أنه ذات ليلة جاء ولد يجرى من ناحية الجامع ويلهث ليُخبر عدداً من الرجال الساهرين حول الطاحونة بأن الشيخ شيخة يرى ويسمع ويتكلم مثل كل البشر.. وأنه سمعه بنفسه يتكلم مع «نعسة» فى الخرابة كلاماً واضحاً ومضبوطاً مثل كلام كل الناس، ورغم أن رجال القرية أجمعوا فى البدء على أن كلام الولد مجرد تخريف، فقد راح كل منهم يسأل نفسه: ماذا لو صح كلام الولد؟.. وماذا لو كان الشيخ شيخة يرى ويسمع ويتكلم؟. إنها فاجعة الفواجع.. فقد اطلع على أحوال وأسرار لم تطلع عليها عين بشر.. «لقد رأى وسمع ما لم يره ولم يسمعه أحد بحكم أنه لم يكن أحداً.. كان كالحيوان المستأنس.. كقطط البيوت مثلاً وكلابها، وما أبشع ما رأت قطط البيوت وكلابها.. وآه لو تكلمت قطط البيوت وكلابها، ربما لما استطاع أحد العيش»!
«كارثة كبرى لو صح الخبر.. فقد لا يُعد هذا هدماً لكل الجدران الداخلية.. ولكنه على الأقل فُرجة صُنعت فى كل جدار.. فرجة من الممكن أن ينتقل منها للغير كل ما يحويه الداخل، فيقوم حينئذ يوم الفوضى الذى هو أفظع وأبشع من يوم القيامة»!
واختفى الشيخ شيخة فترة عن البلد، وذات يوم وجدوه مع «نعسة» التى كانت تسحبه من يده، واجتمعت القرية كلها حولهما، وحاول كثيرون أن يُرغموه على الحديث، ولكنه ظل صامتاً لا تصدر عنه غير ضحكات غريبة.. وفجأة انفجرت «نعسة» فيهم: «يا غجر يا لمامة عايزين إيه؟.. ابنى ولا مش ابنى مالكم ومالنا؟.. أخرس ولا بيتكلم عايزين منه إيه؟.. لو كان سليم وسمع وشاف، يعنى هيكون شاف إيه وسمع إيه؟ ما الحال من بعضه.. واللى بيقول فى حق الناس كلام بطال بيتقال عليه كلام بطال».
استمع الناس مذهولين إلى كلام «نعسة».. وانفضّ الجميع لتنفجر بداخل كل إنسان قضيته الأساسية: لقد سقط «الستر» عن الجميع.. «وأصبحوا عرايا من كل ما يسترهم ويحفظ لهم الشخصية والكرامة والكيان.. وأنهم أبداً لا يستطيعون أن يحيوا فى بلدة واحدة مع الشيخ شيخة»، الذى يعرف عنهم كل شىء.
وتمر الأيام ثقيلة مخيفة، إلى أن يأتى صباح يصحو فيه الناس مذعورين على صراخ مدوٍ صادر عن قلب يعوى ويتمزق ويقول: يا ابنى يا حبيبى. وتسرع الأرجل هالعة إلى الخرابة، فيجدون «نعسة» هى صاحبة الصوت.. ويفاجأون بها تقذفهم بالطوب وهى تبكى بحرقة وتلعنهم وتقول إن الشيخ شيخة «كان أصم وأبكم».. ويرونه جميعاً وهو ممدد أمامها غارقاً فى دمه ورأسه محطم بحجر!
نعم، كان لا بد من قتله، لأن أدنى احتمال بأنه رأى كل شىء وسمع كل همس واطلع على كل أسرار البشر وكل أفعالهم فى الخفاء.. معناه الهدم المؤكد لحياة البشر وسلامهم النفسى والاجتماعى، فالناس -كل الناس- يعيشون فى سلام واستقرار بفضل «الستر» وليس بفضل المكاشفة والصراحة المطلقة.
ولهذا يحدث كثيراً أن أجد نفسى مدفوعاً إلى الكتابة عن فضيحة أخلاقية تسربت -دون علم صاحبها- على وسائل التواصل.. وأجد نفسى -مثل كل البشر- غاضباً ومتقززاً من أفعال أناس كشف الله -أو الشيطان- سترهم.. وما إن أحاول الكتابة حتى أتذكر قصة «الشيخ شيخة» فأتريَّث كثيراً وأفكر على ضوء هذه القصة الرائعة ليوسف إدريس، التى تضعنا أمام سؤال جوهرى: إلى أى مصير أخلاقى منحط، وإلى أى تفسُّخ اجتماعى، يقودنا تعمُّد كشف ستر الناس حتى لو كانوا خطائين فعلاً؟