«الوطن» داخل أول دار للمسنات الكفيفات.. سكن للبدن وونس للروح بعد الستين
أول دار للمسنات الكفيفات
شارع هادئ لا صوت فيه رغم حيويته، يوجد به العديد من المؤسسات الاستثمارية، يظهر في منتصفه مبنى كبير بُني اللون، أدواره قليلة لكنه يتمتع بمساحة كبيرة، لا أصوات أو حركة تصدر من داخل المبني توحي بأن هناك من يعيش بداخله، يتوسطه بوابة حديدة سوداء اللون، نظيفة ذات بريق لامع، يعلوها لافتة مدون عليها «دار المسنات الكفيفات».
فور عبور البوابة الحديدة السوداء، تظهر حديقة الدار، صممت بحيث تتناسب مع احتياجات الكفيفات، يتوسطها أشجار قصيرة ونخلة وحيدة، وعلى جنباتها كراسي خشبية بجوار بعضها خُصصت للنزيلات، وفي أحد أركانها أرجوحة لتوفر لهنّ قدرًا من الاستمتاع في الهواء الطلق، ومن أعلى يظهر الممر المخصص لسير النزيلات.
بعد خطوات من البوابة الحديدية على اليسار توجد دراجات السلم، التي تقود إلى المبنى الكبير المكون من 3 طوابق، ودرجات السلم مريحة لا يشعر فيها المرء بالمشقة خلال الصعود، قليلة المسافات بين بعضها البعض، والطوابق متشابهة لدرجة كبيرة في تصميمها، فكل طابق مجوعة من الشقق التي تعيش فيها النزيلات.
مقابض حديدية بُنية موزعة على حوائط كل طابق، لتكون مرشدًا تتحسَسه أيادي المكفوفات، خلال سيرهنَّ بالدار حتى يصلوا إلى مبتغاهنّ، ليكن أكثر حرية وأمانًا في حركتهن، وليشعرن أنهنّ لسنّ غريبات عن المكان، وأنَّه مخصص لاستيعابهنّ ولراحتهنّ.
في أحد زوايا طابق النزيلات يوجد مكتب صغير، تقضي فيه فاطمة حنفي الإخصائية الاجتماعية لدار المسنات الكفيفات أغلب وقتها، وتروي لـ«الوطن»، أنَّ فكرة إنشاء الدار بدأ التفكير فيها قبل ما يقرب من عام، لكن الافتتاح الحقيقي بدأ قبل أشهر قليلة، وجاءت فكرته لتوفير مأوى للسيدات المسنات: «مؤسسات النور والأمل تستضيف من أول الحضانة والمدرسة ودار الضيافة حتى سن الـ60 عامًا».
الاخصائية الاجتماعية للدار: فكرة إنشائه لاستيعابهنّ واحتوائهنّ في هذا السن
لكن إدارة المؤسسة فكرت في حال بعض النزيلات اللائي ليس لهنّ مأوى بعد ذلك السن، منهنّ من تقضي في المؤسسة كل حياتها أو أغلبها، وليس لها من تعتمد عليه في ذلك السن، من هنا كانت فكرة إنشاء الدار، لاستيعابهنّ واحتوائهنّ في هذا السن، مع توفير الاحتياجات المعيشية والصحية كافة لهؤلاء النزيلات، وذلك وفقًا لحديث الأخصائية الاجتماعية للدار.
فريق عمل متكامل بالدار، يبدأ من المديرة ثم مسؤول الطبخ وتحضير الطعام للنزيلات، وعمال النظافة، والأخصائية النفسية وأخرى اجتماعية مهمتهم إسعاد النزيلات بتوفير أسرٍ بديلة لهن بعدما فقدن أسرهن، وتوفير رحلات وبرمج دعم نفسي، وتنظيم حوار مفتوح لهنّ: «أوقات كثيرة بيبقوا محتاجين حد يسمعهم ويفضفض معاهم وبنحاول نوفر لهم ده».
التكلفة المالية لدار المسنات تحاول مؤسسة «النور والأمل» توفيرها، لكنها في كثير من الأحيان تكون بحاجة إلى متبرعين؛ لمساعدة المؤسسة على الاستمرار في دهم هؤلاء الكفيفات وتوفير معيشة آمنة مستقرة لهن، بعدما أصبحت الدار هي كل ما لهم في الحياة، «النزيلة الواحدة بتحتاج ميزانية ما بين أكل وشرب وإقامة، وكذلك مصروفات العلاج والفحوصات الطبية اللي بيحتاجوها بحكم السن»، بحسب فاطمة حنفي الأخصائية الاجتماعية.
شعور بالغربة يكتنف النزيلات من الدخلاء على الدار، ربما يحتجنّ وقتًا لا يتوفر كثيراً للاعتياد على الغرباء، يتعاملنّ بحرص شديد مع أي غريب عنهنّ، لا يتحدثنّ إلى الزوار إلا قليلًا وبصعوبة، رغم اندماجهن مع المسؤولين عن الدار والعاملين فيه والموجودين بداخله، ربما أصبح فقدان البصر لديهنّ حاجزًا لا ينكسر بسهولة، يحتاج وقتًا كبيرًا لهدمه والاعتياد على من خلفه، فنزيلات دار كذا يكتفين بحياتهن داخلها والعلاقات فيها ويرتابن فيمن دونها.
«منى» إحدى النزيلات: فقدت من حولي.ز والدار تتولى رعايتي
بخطوات هادئة تسير منى معوض، البالغة من العمر 65 عامًا، تتحسس تلك المقابض الحديدية المثبتة على الحوائط، في طريقها لغرف الطعام، تروي لـ«الوطن» حكايتها مع الدار، التي عاشت فيها أكثر من 30 عامًا، حيث دخلته شابة في أواخر سن العشرينيات، حين فقدت من يتولى رعايتها وتوفير مستلزماتها، فكانت وجهتها «النور والأمل» التي أرشدتها إليها إحدى معارفها.
طوال إقامتها داخل المؤسسة، لم تفتقد لأي شيء سوى الأهل، فليس لها سوى أبناء شقيقها وما يربطهم بها اتصالات هاتفية على فترات متباعدة، تعيش «منى» في المؤسسة مع زملائها حتى قاربت سن الـ60 عامًا، وبدأت تتذكر قوانين الدار، أنَّه لا مجال للنزيلات عقب سن الـ60 عامًا، «كنت بفكر لو خرجت من هنا هروح فين، مين اللي هيهتم بيا ويرعاني، مفيش حد ليا برا اعتمد عليه».
فكانت فكرة إنشاء دار مسنين للكفيفات، لاستكمال حياتهنّ بعد سن الستين، في مكانٍ مؤهل أكثر، والعناية فيه أكثر تركيزًا عليها هي وقرينتها في ذلك السن، لتكن لها بارقة أمل في استمرار استقرار حياتها، «اتنقلت هنا مع زملائي اللي كانوا معايا، وكنا فرحانين جدا بالمكان الجديد، لأنّه هيكون أكثر راحة لينا وهنفضل مستمرين فيه»، وفقًا لحديث «منى».
يوم السيدة الستينية في الدار معتاد لا تغيرات تطرأ عليه إلا قليلًا، فتبدأه في الصباح الباكر بالصلاة وتلاوة القرآن، ثم تناول وجبة الإفطار في المطعم المخصص، وخدمة نفسها في بعض الأمور الخاصة بها، وتتفرغ في الوقت المتبقي من اليوم للجلوس مع زملائها من نزيلات الدار، «ساعات كثيرة بيكون في أنشطة أو حفلة، الدار بتعملها لينا وبنتشرك فيها كلنا».
دار المسنات الكفيفات في صورته الحالية، عبارة عن طابق كبير، يحوي 3 شقق، بكل شقة 6 غرف، كل غرفة تتسع لفردين بكامل تجهيزاتهما، يتوفر بكل شقة صالون للجلوس به وتلفاز إذ رغبت النزيلات في الاستماع إليه، ويحوي الطابق مطبخًا كبيرًا مخصصًا لتحضير الطعام للنزيلات، وعلى بعد خطوات منه توجد الطاولات في المكان الذي خصصته الدار لتتناول النزيلات الطعام فيه.
«سلوى»: أعيش في الدار منذ 15 عامًا.. ولا أحد في الخارج يتولى رعايتي
في إحدى غرف الدار، تجلس سيدة ستينية تدعى سلوى محمد، أعلى سريرها، تفكر في حياتها الجديدة بالدار التي انتقلت إليها حديثًا، تروي لـ«الوطن»، أنَّها قضت داخل الدار ما يقرب من 15 عامًا، التحقت بها لأنّها ليس لها من يتفرغ لرعايتها في الخارج، فكانت المؤسسة البديل التي تتولى الاهتمام بها وبكل شؤونها، «كنت عايشة ومرتاحة، لحد ما اقترحوا عليا أطلع الدار وقبلت».
الإقامة في دار المسنات الجديدة أفضل بالنسبة إلى «سلوى»، فالاهتمام بها أكثر، وتتلقى المعاملة الطيبة ذاتها من المسؤولين عن الدار: «بقى ليا أصحاب وزملاء هنا عوضوني عن غياب الأهل، اللي نادرا لما حد فيهم يجيلي زيارة»، فدار المسنات توفر لها رعاية طبية جيدة، واهتمام بكل شؤونها المعيشية وكل ما تحتاجه في إقامتها داخل الدار.