من كتب لا يموت.. وهو كان «كتّيباً»، تعرفه الحروف ويعرفها، شاعراً يختبئ في جبل كبير من «الورق الدشت»، أعطى عمره كله للصحافة، وقلبه كله للكتابة، حتى فى مرضه كان يُسكِّن آلامه بالقلم.
من كتب لا يموت.. وهو اسمه محمود الكردوسي، ولي من أولياء الكتابة، شيخ طريقة فى الرسم بالكلمات، قلمه بندقية أحياناً، ومشرط جراح أحياناً، وسيمفونية موسيقية أحياناً مثل سيمفونيات موزارت وبيتهوفن وباخ وتشايكوفيسكى.
من كتب لا يموت.. وهو -أوله وآخره- كان متناً وعنواناً، مانشيتاً فى الصفحة الأولى، مقالاً فى الصفحة الأخيرة، قصيدة حب تمسُ قلبك، فصلاً مثيراً فى رواية مدهشة، فصلاً يضحكك ويبكيك ويجعلك تتأمل كثيراً فى حال الدنيا.
مات الكردوسى جسداً لا معنى، رحل بعد أن عاند المرض كثيراً، لكن عناد المرض كان أقوى، غادر بعد أربعة وستين عاماً قضاها فى دنيا عاشها بـ«الطول والعرض»، بدأها طفلاً فى الصعيد، وختمها زاهداً فى القاهرة داخل غرفة علاج يضع الألم فى يمينه، والوحدة فى شماله، وهو يحلق بعيداً ينتظر «سقوطاً مؤكداً».
فى أغسطس الماضي، كتب كأنه يرثي نفسه تحت عنوان «لم أعد مهتماً»، يُسمِع الموت الذى يقف على باب حجرته، قائلاً: «ليحدث ما يحدث. ليفرح من يفرح ويحزن من يحزن. ليموت من يموت ويبقى من يبقى. أنا أعيش إلى الوراء. أضع الماضي أمامي لأنني أعرفه، وأتفادى كل ما سيأتي لأنني لست مطمئناً له. أضع الألم فى يميني والوحدة فى شمالي وأحلق بعيداً، وأنتظر سقوطاً مؤكداً يعقبه الفناء. ولا يشغلني ويؤرقني سوى ذلك السؤال العبثي: أين تذهب الروح بعد انتهاء الرحلة؟».
فى ليلة يوم جمعة هادئة تماماً، بعد ستة أشهر أو يزيد قليلاً، انتهت الرحلة. لكن السؤال الذي وصفه بـ«العبثي» عثرنا نحن على إجابته التائهة.. عثرنا عليها الآن:
روح الأحبة لا تذهب.. روحك باقية معانا يا حبيب.