علا الشافعي تكتب.. «مشاحنات» 3 ممثلات وغرفة احتضار
علا الشافعي
يؤكدون أن الحياة خفيفة بشكل لا يحتمل، ريم حجاب وهند حسام تتبادلان دور الضحية والجلاد، وسهام عبد السلام تطلق همهمات الموت، النص يعيد تفكيرنا في ماهية الحياة، لا أعرف لماذا أخذت كل هذا الوقت لكى أكتب عن النص المسرحى البديع «مشاحنات»، للمخرج هانى عفيفي، هل بسبب الثقل النفسي الذى وضعنى فيه العرض بعد مشاهدته مباشرة؟، أم بسبب التساؤلات التى يجعلنا نطرحها على أنفسنا؟، أم أنها حالة الصدق والأداء المتميز لبطلات العرض وعناصره الفنية المختلفة التى جعلتنا نغوص فى تلك الحالة الإنسانية ونتماهي معها؟، أم حالة الصمت وعدم الرغبة فى الحديث التى وجدت نفسى فيها بعد الانتهاء من مشاهدة العرض؟.
أعتقد أن كل الأسباب السابقة جعلتني أتريث في الكتابة، لكي أتأمل الكثير من تفاصيله، خصوصًا وأن عرض «مشاحنات»، أكد لى أن الحياة خفيفة بشكل لا يحتمل رغم ثقل الحالة التي يقدمها النص المسرحي، وأيقنت إننا من نصعب الحياة على أنفسنا فى بعض الأحيان.
العرض من إعداد وإخراج هانى عفيفى، عن ترجمة قدمها المسرحى الراحل دكتور هناء عبدالفتاح لنص للكاتبة الإنجليزية كاترين هايس، وتجسد فيه أدوار البطولة كل من ريم حجاب، وهند حسام وسهام عبدالسلام، وتدور أحداث العرض حول حالة إنسانية دائمة ومتجددة بصور متباينة يمكن أن تقع فى أى زمان وأى مكان.
يبدأ العرض بإضاءة خافتة، حجرة نوم بسيطة ذات ألوان حيادية وسرير أبيض، عليه إمرأة تحتضر، ساعات عصيبة تحتضر فيها الأم، ثم نكتشف وعبر حوار طويل على مدى 55 دقيقة هى مدة العرض بين شقيفتين، إحداهما مقيمة متفرغة لخدمة أمها فى مرضها الأخير، والأخرى زائرة لليلة واحدة بعد غياب سنوات، وفى تلك اللحظات المثقلة بالذكريات المؤلمة.
يدور حوار مليىء بالكثير من المشاحنات والمشاعر الإنسانية المتداخلة فى مواجهة الموت المحلق داخل المنزل الذى نشتم رائحته فى الكثير من التفاصيل والجمل العابرة التى تأتى على لسان الشقيقتين، فلكل منهما مبررات لأخطائه وأطماعه، وتبعات يلقى بها على الآخر وكل منهما تلعب دور الضحية والجلاد فى بعض اللحظات، حتى الأم من خلال همهمات الموت التى تطلقها بين حين وآخر، وأيضًا من خلال تصاعد الحوار بينهما الذى يشبه فى بعض الأحيان جمل موسيقية عنيفة وصاخبة، تسيطر عليها آلالات النفخ والطبول، وفى أحيان أخرى يتحول لجمل موسيقية رائقة أشبه بالموسيقى الخفيفة التى تشبه الهمس وما بين تلك الحالة والأخرى نكتشف طبيعة العلاقة بينهما، وما فعلته أساليب التربية وقسوة الأم بهما.
الشقيقة الكبرى متزوجة من رجل مسافر لإحدى الدول العربية، الغائب الحاضر، لم تستطع الانجاب، محاولات فاشلة للتلقيح الصناعى والصغرى تركت المنزل هاربة بسبب قصة حب من رجل متزوج ، ورغبة فى التمرد من سطوة وسيطرة الأم، تلك الجمل الحوارية المتصاعدة مع حركة محسوبة للبطلتين، طبقًا لتصاعد الحوار والمكاشفة بينهما والحديث عن عقد نفسية قديمة متأصلة فى روحيهما، وحالة الإهمال من جانب الابنة الصغرى لأمها وشقيقتها وكيف تتباعدان أو تقتربان وتجلسان سويا على الأريكة فى لحظة حميمية نادرة، طبقًا لإيقاع الحوار والمكاشفة، وتبادل الاتهامات كان أصعب مشهد بالنسبة لى عندما طلبت الأخت الصغرى من شقيقتها الكبرى أن تساعدها لتغيير «البامبرز» للأم التى باتت لا حول لها ولا قوة، رغم الهمهمات التى تشبه الاحتجاج فى بعض الأحيان على ما يدور بين الشقيقتين.
أما السينوغرافيا فجعلها المخرج هانى عفيفي بسيطة، وعناصرها حادة تكاد تصرخ السرير، الكنبة منضدة صغيرة «كومود صغير أدراجه مليئة بالأدوية»، إضاءة خافتة موزعة بعناية فى جنبات المسرح، باب غرفة لا يفتح بسهولة، وكأن الأم والأخت الكبرى أصبحتا سجينتان داخل تلك الغرفة أو بمعنى أدق داخل غرفة الاحتضار، وهو ما ترفضه الشقيقة الصغرى، التى يبدو أنها تحاول الفرار دائمًا من هذا الواقع المؤلم.
كل تلك الحالة جسدتها ريم حجاب وهند حسام بأداء ساحر ومتناغم، ريم رغم المأساة التى تعيشها كإمرأة عاقر مهجورة تمارس أمومة ترفضها كانت تنتزع ضحكات الحضور فى مواقف كثيرة، وهند المتمردة التى تركت كل هذا العالم واختارت نفسها وحياتها، وأولادها تقاوم إحساسها بالذنب والمسئولية محاولة أن تعطى مبررات لإهمال والدتها، تلك العلاقة المعقدة بين الأم والشقيقتين، فالكبرى تدرك أن أمها كانت دائمًا تفضل الشقيقة الصغرى التى أهملتها، كل تلك المعانى والأحاسيس المتناقضة قدمتها ريم وهند بأداء ساحر تنقلتا فيه بعنف ورقة طبقًا لتطورات المشاحنات والمكاشفات بينهما، وأيضًا الفنانة سهام عبد السلام التى كثيرًا ما كانت تخطف الأنظار رغم أنها طوال العرض نائمة على سريرها فى انتظار الموت، هانى عفيفي أدار كل عناصر العمل بوعي وحساسية لافتة.
عرض «مشاحنات» واحد من أهم العروض المسرحية التى تقدم على خشبة مركز الإبداع، ومن العروض المهمة للمخرج المبدع هانى عفيفي صاحب التجارب المسرحية المميزة ومنها «تسجيل دخول»، و«ليلة»، و«زى الناس»، و«عن العشاق»، و«أنا هاملت»، و«أنا دلوقت ميت» و«ولد وبنت».