اتكلم براحتك.. سجن التوحد ومعركة مواجهة المجتمع
صورة تعبيرية
أعرف هذه النظرة المصوَّبة ناحيتى، أشعر بحرارة الغضب التى تنساب من صاحبها، وأدرك أنه لا يحتاج سوى ابتسامة تعاطف، لكننى لست مستعداً لتغيير خُططى المعقدة من أجل إقناع موظف شباك التذاكر أننى لست من معسكر أعدائه، كان عليه أن يكتفى بالنظر إلى يدى الممدودة بـ5 جنيهات، بينما الأخرى تشير بإصبع واحد، ليست لدىَّ إجابة لسؤاله الذى تكرر ثلاث مرات.. رايح محطة إيه؟
لم تعد تزعجنى تلك النظرة التى يصوِّبها ناحيتى موظف الأمن، لن يصدق أن جهازى العصبى لا يحتمل الصوت الذى تصدره ماكينات العبور فى محطات المترو، لا أحد يصدق أن شرودى هو محاولة للهرب من صوت الأقدام المهرولة خلفى، وأن التصاقى بحوائط السلالم العادية محاولة لتفادى لمسات الأيدى العشوائية التى يمر أصحابها بقربى.
اعتدت ألا أستقل أول قطار يمر فى حضورى، لأتمكن من الجلوس على مقعدى المفضل، أحتاج للراحة قبل خوض معركة جديدة داخل عربات المترو، لكن الشاب الذى استولى على مقعدى يرفض الرحيل، كلما مر قطار.. يلقى بنظرة خاطفة ناحيتى ثم يعود للنظر فى شاشة موبايله، فعلها 3 مرات، وفى المرة الرابعة فتح سائق القطار الأبواب بعد إغلاقها، وقتها وقع بصرى على يد تشير لى بالصعود، فقررت الاستسلام لرغبة هذا الكائن الأشقر.
كنت أتجنب مواجهته، وأعرف أنه يصوِّب عينيه ناحيته، بإمكانى الإحساس بدفء نظرته، ودفقات الهواء التى يقذفها ناحيتى بيديه، أشعر بالفوضى التى صنعتها حركة قدميه الصغيرتين، واحتكاكات أسنانه الأمامية، وانفعالات وجهه المتقلبة، لقد فعل الكثير.. وعلىَّ أن أعترف بأنه نجح فى إثارة فضولى لاكتشاف هذا الكائن الذى يجيد الحديث بدون كلام.
شعرت بالارتياح حين تلاقت نظراتنا، رغم أننى أخشى النظر لعيون الآخرين، خوفاً من عبارات التعاطف التى يُظهرونها، لكنه لا يشبههم، كان يشبه ملاكاً استيقظ من نومه قبل ثوانٍ، كان كريماً فى ابتسامته، وجريئاً فى إقباله على الحياة، فشعرت أننى فى حضرة صديق أعرفه ويعرفنى، وفاجأنى بما لم أتوقعه.. حين قرر أن يقطع المسافات التى تفصل بيننا، لكنَّ شيئاً ما يعوق حركته، واعتقدت أن أصابع والده التى تضغط على قدميه هى ما يعجزه عن الحركة.
ظلَّ الملاك الصغير يقاوم.. يحاول الإفلات من الطوق الذى صنعته أيدى والده حول جسده، رفض الاستسلام لنظرات الأشخاص الجالسين بقربه، وعباراتهم التى تنهال على مسامعه.. «ربنا يشفيه»، ووددت وقتها لو كان بإمكانى أن أطلب منهم السكوت، اعذرهم يا صغيرى.. فهم لا يعرفون، أنا أعرف هذه الجملة جيداً، سمعتها ملايين المرات، كان طبيبى يقول إننى لست مريضاً، بينما كل من حولى يقولون: «ربنا يشفيه»، لا تندهش يا صغيرى.. فطبيبى نفسه بعد أن نطق جملته.. انهمك فى تدوين أسماء أدوية كثيرة، وظللت لسنوات أتجرعها.. رغم رائحتها النفاذة التى تصيبنى بالتوتر، لكننى تدربت على إخفاء مشاعرى لتجنُّب وصلات العقاب من والدتى، وضحكات السخرية التى يطلقها أشقائى الـ6.
أدرت رأسى بعيداً.. هرباً من رسائل استغاثته، لكن صرخاته كانت أقوى من قدرتى على الاحتمال، وصوته الواهن يشبه آلة حادة تمزق خلايا عقلى، كان مثلى.. عنيداً ويرفض الاستسلام لرغبات الآخرين، لذا لم يترك لى فرصة الاستمتاع بالهرب، ونجح فى دفعى للمواجهة مرة أخرى، وحين أدرت رأسى ناحيته.. اكتست ملامحه الشقراء بابتسامة زادت من بريق عينيه الزرقاوين.
اعذرنى يا صغيرى، لست الصديق الذى تنتظره، لقد أنهكتنى المواجهات الفاشلة، أعرف أن صوتى جميل، لكننى لا أستطيع حفظ كلمات الأغانى، أقدر حاجتك لمن يدعمك، لكننى بحاجة لمن يدعمنى، أنا أسير «اسبرجر سندروم»، وطبيبى لا يعتبره مرضاً، لكن كل من حولى يؤمنون بعكس ذلك، ويتوهمون أنهم مهتمون لأمرى.. ويدَّعون أنهم يطلبون من الله أن يمنَّ علىَّ بالشفاء، لكنهم لا يرغبون فى خفض أصواتهم التى تصيبنى بالتوتر.
اعذرنى يا صغيرى.. لقد عشت وحيداً داخل أسرة تضم 6 أشقاء، والدى لم تزعجه حالتى.. لانشغاله بالكثير من الأعباء، ووالدتى لا تجيد سوى تذكر مواعيد الأدوية، وأطفال الجيران يحتاجون من يتفاعل مع رغباتهم، وزملاء المدرسة لا يرغبون فى التعامل مع طفل مرتبك فى انفعالاته، حاولت كثيراً التفاعل معهم، سعيت لجذب اهتمامهم، اضطررت أحياناً لضرب أحدهم.. وانتظرت أن يجرى خلفى، لكنه لم يفعل.
اعذرنى يا صغيرى، كلانا يعانى من التوحد.. ويحتاج من يهتم لأمره، اغفر لى رغبتى فى الانسحاب، مثلما غفرت لكل من تهرب من مقابلتى بعد أول جلسة بيننا، لقد حاولت الاندماج كما نصحنى الطبيب، كنت أتطوع للقيام بمهام زملائى فى العمل، ولم أطمع سوى فى الفوز بحوار صداقة مدته دقيقة واحدة.. لكن علاقاتى تجمدت عند حدود «شكراً لك»، يبتسمون لينتزعوا منك ابتسامة، يلقون التحية ليحصلوا على مثلها، كل شىء بحساب، فهل ترغب حقاً فى الاندماج مع هؤلاء الروبوتات.
اعذرنى يا صغيرى.. لأننى لم أستطع البقاء بقربك لأكثر من محطة واحدة، لقد كرهت المواجهات الفاشلة، وكلانا يعرف أننا لن نلتقى مرة أخرى.
(م. س) مصاب بطيف التوحد
الرد
يا صديقى.. أعرف أنك لا تنتظر رداً على رسالتك، لكن دعنى أخبرك أننى أب لطفل مصاب بطيف التوحد، أدركت ذلك حين كان عمره عامين ونصف العام، وقتها تمنيت أن يخيب الأطباء ظنى، ولجأت لأسماء لامعة من المختصين، فأجمعوا على أنه طفل طبيعى، لكنهم بدلوا آراءهم بعد عام، واعتبروا أن عدم استسلامى لحكمهم أنقذ هذا الملاك الصغير من تدهور حالته.
يا صديقى.. أعرف أن كلماتك كانت مجرد فضفضة، ومحاولة للتخلص من حالة الغضب الكامن داخلك، وإعلان التمرد على الثقافة المجتمعية التى تعتبر الاختلاف مرضاً، وإظهار التعاطف صدقة، لكن أعترف لك أننى وقعت فريسة لهذه المشاعر الزائفة خلال تعاملى من ابنى، ولم أُشفَ من آثارها إلا بعد تدريبات كثيرة، فلا تعتقد أن تقبُّل الاختلاف فطرة، بل وعى فردى يمكن تنميته ليصبح وعياً مجتمعياً، وأشدنا إيماناً بالتنوع والاختلاف ربما يصاب بالارتباك حين يواجه نتائج هذا الاختلاف فى بيته.
يا صديقى.. لا تستسلم لرغبات الآخرين، ولكن لا تحاول أن تدينهم بسبب مشاعرهم، فأنت أسير «اسبرجر سندروم»، وهم أسرى عادات وتقاليد تخشى الاختلاف.. وربما تعتبره مرضاً، وحين يتملكك الغضب من عبارات الدعاء التى يطلقونها بحجج شرعية، عليك أن تلزم الشرع وترد لهم التحية.. «ربنا يشفى الجميع».
سيد المليجى
--------------------
بالتأكيد يصلنا صوتك حني تتكلم أو تشكو أو تعترض.. ربما تحتاج أن تأخذ القرار.. أن تتكلم بالفعل.. تبوح وتفضفض، وتفتح قلبك لتزيح عنه ما يجثم عليه فيتعبك، ويحرمك من الاستمتاع باللحظات الحلوة.. ضع حملك الذى أنقض ظهرك.. ً في الفضاء الواسع.. دورنا هو أن نأخذ بيدك لتتجاوز المطبات، وتعبر بر الأمان، واترك لروحك العنان حتى تحلق خفيفةً دائما وحتى لو تعثرت وسقطت، فواجبنا أن نساعدك على النهوض نافضين عن ثوبك كل ما علق به من الأتربة.. وتذكر أن العمر قصير، والسنوات كالثيران الهائجة.. تنطلق بلا توقف، فعشها كما ينبغي، وكما تريد أنت، لا كما يريد لك الآخرون.
ارسلوا إلينا آراءكم ومشاكلكم على البريد الإلكتروني:
com.elwatannews@elwatan.bareed أو على عنوان جريدة «الوطن»: 16 ش مصدق - الدقي