أحمد بيومي يكتب: طوق النجاة للاقتصاد.. سعر الصرف العادل للجنيه
أحمد بيومي
أظهر اقتصاد مصر فى الفترة الأخيرة استقراراً ومرونة كبيرة فى التعامل مع الأزمات العالمية المركبة، فبشهادة مؤسسات التأمين العالمية «فيتش» و«S&P» استمر اقتصاد مصر بالنمو بفضل توسع الحكومة فى الإنفاق خلال عام «كورونا»، وتفوق الاقتصاد المصرى على الغالبية العظمى من الدول. يعود ذلك الفضل بالأساس إلى برامج التحفيز الحكومى التى أطلقتها الدولة المصرية لدعم الاقتصاد خلال فترة «كورونا» والفترة اللاحقة لها، وبرامج الاستثمار العام التى وضعتها الدولة المصرية لتعويض الانخفاض فى الاستثمار فى الجزء الخاص بالقطاع الخاص، والمبادرات التى قدمتها الدولة المصرية لقطاع السياحة والقطاعات الموجهة للتصدير.
كان لتلك الحزم التحفيزية آثار إيجابية على نمو الناتج المحلى الحقيقى بنسبة 3.6% فى عام 2020، ليكون من بين ثلاث دول عالمياً استطاعت تحقيق نمو إيجابى، استطاع الاقتصاد أن يحقق معدل نمو بلغ 3.3% فى عام 2021، والعودة للنمو مرة أخرى ليحقق معدلات النمو التى سبقت عام كورونا خلال عام 2022 ليحقق معدل نمو نسبته 5.5%.
لكن الحرب الروسية الأوكرانية وتوابعها التى رفعت أسعار السلع عالمياً إلى مستويات غير مسبوقة ألقت بظلالها على معدلات التضخم عالمياً، وهو ما دفع البنوك المركزية عالمياً لتشديد سياستها النقدية، فبدأت البنوك المركزية انتهاج سياسات تتسم برفع أسعار فوائدها وخفض طرح السيولة بالسوق من خلال بيع السندات بالسوق، أو تقليص مشتريات الأصول المالية، أو بالسماح لأسعار عملتها بالانخفاض للحفاظ على هياكل اقتصادها فى وضع مرن وقوى وقادر على الصمود أمام تلك الأزمة.
أقدم البنك المركزى المصرى فى مارس من عام 2022 على رفع أسعار الفائدة للتعاطى مع تلك المستجدات العالمية. وهو الإجراء نفسه الذى قامت به معظم البنوك عالمياً، وسمح للجنيه المصرى بالتحرك بشكل هامشى والانخفاض بالنسبة للدولار من مستوى 15.70 جنيه للدولار إلى مستوى 19.70 جنيه للدولار، وهو ما منح الاقتصاد المصرى المرونة والقدرة على الصمود أمام تلك الأزمة العالمية. لكن هناك تساؤلات هى الأبرز حالياً، هل الخفض الذى تم على سعر الجنيه المصرى يكفى للاستمرار فى الفترة القادمة، وهل السعر الحالى هو السعر العادل للجنيه المصرى؟
للإجابة عن ذلك التساؤل، من الجدير بالذكر أن سعر صرف العملة بالنسبة للبلاد لا يؤثر فقط على معدلات التضخم التى تنعكس على الأسعار، لكن سعر الصرف مرتبط بشكل مباشر بقدرة مصر على تعزيز صادراتها وتوفير تسعير مناسب للمصنِّعين المصريين للتوغل فى أسواق التصدير، هذا فضلاً عن إدارة الواردات بالقدر الذى يسمح للمصنع المصرى الحصول على حصة فى السوق المصرية، والذى يتم ترجمته فى أداء ميزان المدفوعات المصرى (تجارى، خدمى، جارٍ). من جانب آخر يرتبط سعر الصرف بشكل مباشر بقدرة البلاد على جذب استثمارات أجنبية مباشرة أو غير مباشرة، أو استثمارات حافظة الاستثمارات، التى تؤثر بشكل مباشر على أسس الاقتصاد المصرى وقطاعه الحقيقى، وعلى الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزى المصرى، ومن ثم لقياس مدى عدالة تسعير الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى فيمكن النظر إلى أداء تلك الفرعيات من الاقتصاد للوصول إلى تلك النتيجة.
ميزان المدفوعات
بالنظر إلى أداء ميزان المدفوعات المصرى خلال الثلاثة أرباع الأولى من عام 2022، فقد حقق الميزان التجارى عجزاً قيمته 33.5 مليار دولار أمريكى، وهو ببساطة دليل على أن سعر صرف الجنيه المصرى غير الحقيقى يؤثر بشكل سلبى على صادرات مصر ولا يسمح لها بالنمو بالشكل الكافى، وفى الوقت نفسه يسمح للواردات بالنمو بشكل كبير، الأمر الذى يترتب عليه اتساع العجز، فعلى سبيل المثال: اتسع عجز الميزان التجارى فى الربع الثالث من عام 2022 إلى 11.8 مليار دولار، مقابل عجز بقيمة 10.6 مليار دولار فى الربع السابق له (الربع الثانى - 2022) وهو ما يعنى أن الوضع الحالى غير موائم لدعم التجارة المصرية، بل يصب فى صالح التجارة الأجنبية.
من جانب آخر، فإن سعر صرف الجنيه المصرى له أثر مباشر على قدرة مصر على جذب استثمارات أجنبية مباشرة وغير مباشرة، وبالنظر إلى أداء الاستثمار الأجنبى المباشر فى مصر خلال عام 2021 والثلاثة أرباع الأولى من عام 2022، اتسم أداء الاستثمار الأجنبى المباشر فى مصر بالتواضع حتى الربع الثانى من عام 2022، وكان لقرار البنك المركزى المصرى بإعادة تسعير سعر صرف الجنيه المصرى أثر كبير على قدرة مصر على جذب استثمار أجنبى مباشر فى الربع الثالث من عام 2022، لترتفع من 1.6 مليار دولار فى الربع الثانى من عام 2022 إلى 4.1 مليار دولار فى الربع الثالث من عام 2022.
أما عن أداء استثمارات الحافظة فى مصر، فقد اتسم بالتباين نظراً لتأثر الأموال الساخنة بشكل كبير بما يدور عالمياً من وضع اقتصادى وجيوسياسى، وعليه فقد تأثرت استثمارات الأجانب فى حافظة الاستثمارات بشكل كبير فور نشوب الحرب الروسية الأوكرانية التى ترتب عليها انخفاض الاستثمارات بالحافظة لتصل إلى سالب 6.1 مليار دولار فى الربع الثانى من عام 2022 (نشبت الحرب الروسية الأوكرانية فى فبراير 2022)، وتفاقمت تلك الانخفاضات لتصل إلى سالب 14.8 مليار دولار فى الربع الثالث، تتأثر الاستثمارات فى حافظة الاستثمارات بشكل مباشر بالعديد من العوامل منها أسعار الفائدة فى الأسواق المنافسة، والوضع الاقتصادى فى مصر، وأسعار الفائدة الحقيقية، وبالطبع سعر صرف الجنيه المصرى الذى يؤثر بشكل مباشر على قرار المستثمرين بالاستثمار فى تلك الفئة من الأصول من عدمه.
بالنظر إلى المحددات السابق الإشارة إليها نخلص إلى نتيجة رئيسية مفادها أن سعر صرف الجنيه المصرى فى الوقت الحالى لا يعبر عن حقيقته، ولا يمثل سعراً عادلاً له، إذ إن الوضع الحالى سيدفع الميزان التجارى لتعميق خسائره، وهروب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، واستنزاف احتياطى النقد الأجنبى فى محاولة الوفاء باحتياجات البلاد من الاستيراد المتزايدة والمدعومة بشكل غير مباشر باستخدام سعر صرف غير صحيح للجنيه. وفى حال إضافة أن باقى دول العالم التى تعانى من معدلات تضخم مرتفعة تتجاوز نسبة 10% اتخذت فى ضوئها قرارات متلاحقة برفع أسعار الفائدة وبيع السندات الحكومية بالسوق بهدف جذب السيولة، فإن لتلك السياسات آثاراً أكبر بكثير على تعميق جراح الأسواق الناشئة غير المرنة وهو ما له أثر سلبى قوى ومباشر على تلك الاقتصادات ومنها مصر فى حال استمرار الوضع الحالى.
مما سبق عرضه، فإن أحد أهم الإجراءات التصحيحية لمسار للاقتصاد المصرى والحفاظ على ثرواته ومنع استنزاف العملات الأجنبية، وتعزيز الميزان التجارى هو إعادة تسعير الجنيه المصرى بسعره العادل والذى يعبر عن التسعير الحقيقى للأصول والخدمات المقدمة فى مصر، وفى ذلك الملف يجدر الإشارة إلى أن تسعير العملة يعتبر إحدى أعقد العمليات الحسابية فى الاقتصاد عالمياً، إذ إن البيئة الاقتصادية العالمية دائمة التغير وهو ما يتطلب إعادة مراجعة تلك المتغيرات وأثرها على الاقتصاد المصرى، لكن تقديرات العديد من المؤسسات الدولية، وبنوك الاستثمار العالمية تشير إلى حاجة الجنيه المصرى للانخفاض بنسبة تتراوح بين 10.0%- 15.0% ليصل سعر الصرف إلى 21.0 - 24.0 جنيهاً لكل دولار، وترى أن ذلك السعر هو سعر كافٍ لتحقيق التوازن بالاقتصاد المصرى وإعادته لمرحلة الجاذبية، لكن يظل المحدد الرئيسى لمدى كفاية ذلك السعر هو كيفية تعاطى السوق (مستهلكين ومنتجين) فى تعاملهم مع العملات الأجنبية الذى يمكن قياسه من خلال أداء الميزان التجارى لمصر (الصادرات والواردات)، وأخيراً أداء الميزان الجارى لمصر والذى تندرج تحته الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة بالاقتصاد المصرى.
آثار ذلك القرار
سبق أن مرت الدولة المصرية بوضع مشابه فى الفترة قبل 2016، حينما كان يتم التدخل فى تسعير الجنيه بسعر لا يعبر عن السعر العادل له نتيجة لتدخلات البنك المركزى المصرى فى ذلك الوقت، وعلى الرغم من أن المركزى نجح فى الحفاظ على استقرار سعر صرف الجنيه المصرى لفترة من الزمن، فإنه فى نهاية الأمر تم اتخاذ قرار بوضع سعر صرف الجنيه المصرى فى مساره الصحيح. وعليه يمكن البناء على تلك التجربة لاستخلاص الآثار المتوقعة على اتخاذ مثل ذلك القرار.
سيكون لذلك القرار آثار إيجابية طويلة الأجل وسلبية قصيرة الأجل على كل من المواطن والدولة بشكل عام، بداية فإن إعادة تسعير سعر صرف الجنيه المصرى وتخفيضه بنسبة 10.0% - 15.0% سيدفع معدلات التضخم إلى الارتفاع بنفس النسبة تقريباً بالنسبة للمنتجات المستوردة، والارتفاع بنسبة أقل بالنسبة للسلع التى يتم إنتاجها محلياً وفقاً لدرجة اعتمادها على مواد خام مستوردة، نظراً للاعتماد على سوق الاستيراد بشكل كبير للوفاء بحاجات المواطنين، لكن تلك الزيادة ستنخفض تدريجياً مع بداية ظهور المنتجات المصرية التى ستتمكن من المنافسة من خلال تكاليف إنتاجها الأقل، وعليه فإن الأثر السلبى لمعدل التضخم سيتلاشى خلال عام تقريباً.
من جانب آخر، سيكون لذلك القرار أثر إيجابى كبير على استعادة التوازن فى ميزان المدفوعات المصرى من خلال دعم الصادرات المصرية وتقليص الواردات، وإعادة جاذبية الاقتصاد المصرى بالنسبة للأجانب، سواء فى الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، فمن المتوقع أن تعود الاستثمارات الأجنبية المباشرة للنمو مرة أخرى وتستكمل مسارها الصاعد الذى حققته فى الربع الثالث من عام 2021، هذا فضلاً عن إعادة جاذبية حافظة الاستثمارات المصرية بالنسبة للأجانب، وتحسن أداء سوق الأوراق المالية المصرى والذى ينتظر المستثمرون على أعتابه قبل بيع عملاتهم الأجنبية وشراء الجنيه المصرى للاستثمار فى الشركات المقيدة بها، وقد يكون لكل تلك العوامل الإيجابية أثر فى تحسن الاقتصاد وتحسن سعر صرف الجنيه المصرى أمام الدولار فى المستقبل، وقد سبق أن حدث ذلك السيناريو فى عام 2016 عندما وصل سعر صرف الدولار الأمريكى مقابل الجنيه المصرى إلى 19.17 جنيه لكل دولار والذى ترتب عليه تدفق حجم كبير من العملات الأجنبية إلى البلاد ما ترتب عليه بالتالى تحسن سعر صرف الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى لينخفض إلى مستوى 13.50 جنيه للدولار قبل أن يستقر عند نطاق 15.50 - 15.80 جنيه للدولار لسنوات عديدة.
من جانب آخر، فإنه مع تنفيذ تلك القرارات من المتوقع أن تتدخل الدولة بحزمات دعم اجتماعى لتخفيف أثر مثل تلك الإصلاحات على المواطنين محدودى الدخل والذين يتم استهدافهم ببرامج الدعم الاجتماعى المختلفة مثل تكافل وكرامة والذى وصل إلى دعم 5 ملايين أسرة بإجمالى دعم 25 مليار جنيه، أو برنامج فرصة، أو غير ذلك من برامج الدعم الأخرى التى تقوم بها الدولة المصرية والتى تتوسع بها باستمرار لتغطية شرائح أخرى من المواطنين محتاجى الدعم، وهو ما اعتادت الدولة المصرية تطبيقه خلال السنوات الماضية.