لن ينقذنى فى صباح تتجاوز درجة حرارته خمساً وثلاثين درجة مئوية -وخصوصاً مع شخصية ليست على علاقة وطيدة مع مكيفات الهواء مثلى- سوى «دورق» ماء به ورقتان من النعناع الطازج، وعصارة نصف ليمونة ممتلئة.. يا الله! ما أجمله! سأجهزه حالاً لكِ ولى يا عزيزتى. تركتها تشرب قهوتها وانصرفتُ لأحضر خلطتى المفضلة من الماء، أو لربما انصرفت لأستوعب مع نفسى ما قالته لى أيضاً هذه الصديقة الطيبة. عشت معها أحداثاً كثيرة منذ تعارفنا، فقد تزوجَت فى ظروف نفسية لم تكن لتؤهلها للاختيار الجيد، ورغم ذلك ولأنها لا تحب الفشل، تحمّلَت كثيراً جداً حتى لا تحمل لقب «مطلقة» فى مجتمعات لها نظرتها الموجعة للمطلقة -حتى وإن أبدت غير ذلك- ولكن لجميعنا حدّه للتحمُّل. أذكر أنها جاءتنى عندما فاض الكيل بها، فلم أقُل لها سوى جملة واحدة: «إن كان ما تعيشينه الآن من الأشياء التى تدفعك إلى اتخاذ قرار الانفصال لن يتغير وليست لديك القدرة فعلاً على تحمّله، فما ستفعلينه إن عُدتِ إلى نفس البيت الآن ما هو إلا مسكّن قد يدفعك إلى تأجيل القرار الذى حتماً ستأخذينه يوماً.. الأمر إذن يتوقف على طول المدة التى ترغبين فى أن تضيعيها من عمرك يا عزيزتى حتى تفعلى الشىء الصحيح». وانتهى الأمر بها إلى أن تحررت وحررت زوجها من قيد التعاسة الزوجية التى لم تثمر -والحمد لله- عن أبناء، مما ساعدهما على مواصلة الحياة دون خسائر قد يتحملها آخرون. مرت سنوات، وكلما قابلتها وجدت حولها المريدين والطالبين الذين لم تُعِرهم اهتماماً، بدعوى أن الأمر فى النهاية سيؤول إلى نفس النتيجة، فلا داعى لتكرار المأساة. لم أجادلها يوماً فى أفكارها ليقينى أنها لم تقابل من يتممها بعد.. إلى أن طلبَت لقائى صباح يوم، جاءتنى لتخبرنى بحالها وكيف أنها أصبحت ترى فى هذا الرجل كل ما تتمناه، وكيف أنه يفاجئها دائماً بمميزات شخصيته التى أدّبها فأحسن تأديبها مع كل موقف تراه فيه أو يجمعها به. كانت فرِحة.. ولكنها كانت خائفة أيضاً.. لم تقرر بعد ماذا ستفعل. فجاءنى سؤالُها محيراً: «ماذا لو تكررت نفس التجربة وعشت نفس الألم؟!» فأخذتُ نفَساً وقمتُ لأحضر الماء وأفكّر فى الرّد.. ثم قررت أن أواجهها من أقصر الطرق وأعمّها شفاءً. عدت إليها بالماء، جلست فى مقعدى أمامها.. وقلت لها: «ربما لن أقول لك ما تنتظرينه منى (افعلى أو لا تفعلى) ولكن ما سأقوله لك الآن ربما هو ما تحتاجينه فعلاً لتكملى حياتك فى سلام، فاسمعينى جيداً.. أنا أؤمن جداً بأن أفكارنا هى التى تصنع مستقبلنا، وتجاربنا هى التى تصنع أفكارنا، ورؤيتنا لتجاربنا تختلف باختلاف تفسيرنا نحن لها وليس باختلاف التجربة ذاتها». كانت تحدق فىّ بشدة موحية بأنها تحتاج إلى تفسير، فأكملت حديثى: «نعم، هى تبدو وكأنها جملة معقدة، ولكنها ليست كذلك إن تمهلتِ فى قراءتها. سأشرح لك قصدى.. أفكارنا عن المستقبل هى التى تصنعه. هذه حقيقة، فأنت إن تصورت أنك ستفشلين فى تجربة ما فإن عقلك سيبدأ أوتوماتيكياً فى التعامل مع كل المعطيات حولك على أنها أسباب للفشل، وربما يقودك هذا كله للتسليم مع أول أزمة ليقينك الداخلى بأنك ستفشلين، وهنا لن تبذلى أى جهد ولو بسيطاً لتحقيق النجاح، أو ربما تدفعك هذه المعطيات إلى عدم خوض التجربة من الأساس.. وهل هناك ظلم أكثر من أن تحرمى نفسك من خوض تجربة قد تنجحين فيها إذا حاولتِ بصدق؟ أما تجاربنا التى تصنع أفكارنا فهى ببساطة أننا غالباً ما نلجأ إلى مبدأ المقايسة فى حياتنا بين ما سيأتى وما مر علينا من قبل، فنربط -لا إرادياً- بين ما نحن مقبلون عليه من تجارب وخلاصة تجارب سابقة عشناها من قبل أو رأيناها عن قرب مع الأهل والأصدقاء.. فتكون فكرتك مبنية فقط على هذا الربط الذى صنعته، الذى قد يكون مختلفاً تماماً عن تجربتك المقبلة. أما يا عزيزتى ما قلته لك بأن رؤيتنا لهذه التجارب تختلف باختلاف تفسيرنا لها ولأسباب نجاحها أو فشلها من وجهة نظرنا، فسأفسرها لك ببساطة. مثلاً.. حين تقنعين عقلك بأنك لم تخطئى فى مناقشة ما مع مديرك وأدى ذلك إلى خسرانك وظيفتك.. سترين حينها أن السبب هو تعنّت المدير الظالم، أو أنه يغار من نجاحك، أو أن هناك من أفسد بينكما، ولن تمنحى عقلك الفرصة ليفكر فى أخطائك أنت فى الموضوع.. وبهذا سيختلف حكمك على التجربة باختلاف رؤيتك لها.. ومع الزمن ستتحول فكرتك إلى قناعات وثوابت فى حياتك.. وستتحكم فى تجاربك المقبلة مع أى مدير آخر.. الآن كيف ترين الأمر؟». كانت لا تزال على حالها السابق.. تمعن النظر، تسمعنى بعقلها وقلبها، أو ربما تربط بين ما قلته وما تعيشه الآن. قالت بهدوء: «الأمر يبدو منطقياً»، ثم صمتَت، فابتسمتُ لها وأكملت: «الآن يا عزيزتى إذا أردت أن تعيشى حياتك المقبلة بصدق وتتخذى قراراتك المهمة بشكل صحيح.. فعليك أولاً أن تعيدى النظر فى تقييمك لتجاربك السابقة، وأفكارك حولها حتى تشفى من ألمها. يا عزيزتى، القدرة على خوض التجارب شىء عظيم، ولكن فقط إذا دخلناها بكامل رغبتنا وإرادتنا وأفكارنا العادلة. نحن نعيش لنتعلم يا حبيبتى.. فلا تنسَى أبداً أنه ليس كل التجارب التى سنعيشها ستسعدنا.. ولكن حتماً كلها ستعلّمنا..». أخذَت نفَساً عميقاً ومنحتنى نظرة راضية.. بادلتها إياها وسألتها ضاحكة: «الآن قولى لى، هل تحبينه حقاً؟». ابتسمَت.. فواصلنا الحوار حول فوائد الماء الممزوج بعصارة الليمون وورق النعناع الطازج.