بلغت الدولة المصرية القديمة، قمة أزدهارها ومجدها مع فراعنة الأسرة الرابعة بناة الأهرام، الذين ملكوا سلطة مركزية طاغية وثروات طائلة مكنتهم من تسخير جهود رعايهم في بناء الأهرام بهذا الأرتفاع الشاهق وعلى تلك المساحة الشاسعة، بما يحقق لهم ما طمحوا إليه من مجد دنيوي وأخروي، ولكن دون مرعاة آلام هؤلاء البشر ومعاناتهم في هذا العمل الشاق الذي استغرق سنوات طويلة، ودون أن ينتبهوا لمظالم كبار الموظفين الذين أداروا هذا المشروع الضخم، وحققوا ثراءًا فاحشًا، وملكوا أقطاعيات كبيرة.
وبحلول عام 2500 قبل الميلاد، وبعد عدة قرون من عصر بناة الأهرام، تضخمت تلك الأقطاعيات، وزاد نفوذ أصحابها ، وحققوا لانفسهم استقلالًا سياسيًا مكنهم من إدارة شئون الأقطاعيات بعيدًا عن سلطة الحكومة المركزية، حتي صارت الدولة المصرية القديمة نتيجة لذلك تتكون من عدة أقطاعيات مفككة لا روابط بينها، بما أدى في النهاية إلى انهيار الدولة القديمة وتمزيق وحدة البلاد.
ويذكر جيمس هنري برستيد في كتابه فجر الضمير، أن انهيار الدولة المصرية القديمة،كان له تأثيرًا عظيمًا على عقول المصريين الذين شاهدوه، وقد ترتب عليه " أن أقلع رجال الفكر عن التفكير في الآبهة الظاهرة الكاذبة، وتحولوا إلى التأمل العميق في قيم الباطن". أي أنهم اكتشفوا أن مجد الأجداد الذي كان محوره الأبهة وعظمة البنيان، لم يكفل لهم الخلود الذي سعوا إليه، ولم يحافظ على بناء الدولة، ويحقق حياة سعيدة وأمنه للإنسان، وقد عبروا عن هذه التأملات في صورة أدبية بالغة الدلالة على حالتهم العقلية والنفسية، ونزعتهم التشاؤمية الكارهة للحياة في زمن السقوط والانحدار.
وتُجسد لنا البردية الشهيرة، المحفوظة الآن في متحف برلين، والتي عنوانها" محاورة بين إنسان يأس سئم الحياة وبين روحه"، الحالة النفسية والعقلية لإنسان من ذلك الزمان، نظر حوله فلم يجد إلا الفساد والخيانة والظلم وعدم الإخلاص، فتألم لكل ذلك، وبلغ به اليأس مداه حتى فكر في الانتحار والفرار من هذه الحياة، بعد أن فقد الإيمان بجدوى الكلمة والإصلاح في ظل التردي والفساد العام، فكتب يقول: " لمن أتكلم اليوم؟ الإخوة سوء، وأصدقاء اليوم
جديرين غير جديرين بالحب. لمن أتكلم اليوم؟ القلوب تميل إلى اللصوصية، فكل إنسان يغتصب متاع جاره. لمن أتكلم اليوم؟ فالرجل المهذب يهلك، والصفيق الوجه يذهب في كل مكان. لمن أتكلم اليوم لا يوجد رجل عادل، وقد تُركت الأرض لأولئك الذين يرتكبون المظالم".
وعلى العكس من هذا الفيلسوف المصري المتشائم، عاش في ذلك الزمان الذي عم فيه الانهيار السياسي، والفساد الإداري والانحطاط الأخلاقي، ناقد ومفكر اجتماعي رائد، هو الحكيم إيبور، الذي حاول أن يهزم يأسه، وصور في نص شهير له يحمل عنوان " تحذيرات الحكيم إيبور" الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية حوله، ونقد حال وسلوكيات أهل عصره. بل وجدناه كمفكر أصيل يمارس النقد الذاتي، فيُحمل نفسه بعض مسؤولية التردي القائم حوله، لأنه لم يقوم بدوره، ولم يجاهر برأيه، ولم يسع لإنقاذ ما يمكن انقاذه؛ فيقول:" ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت، حتى كنت أُنقذ نفسي من الألم الذي فيه الآن، فالويل لي لأن البؤس عم في هذا الزمان".
ولكن الحكيم إيبور لم يتوقف عند الجانب النقدي للمجتمع والذات، واتخذ موقفُا إيجابيُا تجاوز به صمته في مرحلة سابقة، فوضع بعض الوصايا التي تمهد للإصلاح وتجديد المجتمع، أولها وجود حاكم عادل ذو بأس، تكون وظيفته أن " يطفي لهيب الحريق الاجتماعي، ويُقال عنه أنه راعي كل الناس". ولكنه نظر حوله فلم يجد هذا الحاكم العادل، فتساءل متعجبًا:" أين هو اليوم؟ هل هو بطريق المصادفة نائم؟ أنظر إن بأسه لا يرى".
والمفارقة العجيبة، إن سؤال الحكيم إيبور ظل منذ ذلك الحين، وعبر تاريخ علاقة المصريين بحاكمهم إلى اليوم قائمُا!