يقول أمل دنقل فى قصيدته «من أوراق أبونواس»: «كنت فى كربلاء.. قال لى الشيخ إن الحسين مات من أجل جرعة ماء.. وتساءلت: كيف السيوف استباحت بنى الأكرمين، فأجاب الذى بصرته السماء: إنه الذهب المتلألئ فى كل عين».. إذا أردت أن تعرف السبب الحقيقى للانحطاط فى القيم والأخلاقيات، فليس عليك سوى أن تقرأ هذه السطور، لتعرف أنه الذهب الذى يتلألأ فى كل عين.. المال.. سلاح الإذلال فى كل عصر.. ولهاثهم وراءه السر الأكبر للانحطاط.
تسألنى عن حالة الانحطاط التى يعيشها الإعلام هذه الأيام.. أقول لك إنه المال. يمكنك أن تحس بهذا الأمر بسهولة، عندما تشاهد ذاك الإعلامى أو تلك الإعلامية يصرخ أو تصرخ دفاعاً عن قضية أو شخص أو مؤسسة، فتسأل: هل من الوارد أن يؤمن أحد بقضية أو شخص أو مؤسسة بهذه الصورة؟. وأقول لك لا، من الصعب جداً أن يكون الإيمان هو المحرك، فالإيمان يقابله ثمن يدفعه المؤمن، وهؤلاء يقبضون!. الإنسان فى الأحوال العادية يؤثر العافية، حتى فى أشد المسائل الإيمانية حساسية، وهى الإيمان بالله تعالى الذى يقول فى كتابه الكريم: «وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ»، فى سياق وصفه لموقف الفئة المختارة من البشر التى آمنت بالنبى، صلى الله عليه وسلم، وهاجرت معه، حين وُضعت فى الاختيار بين التحرك وراء قافلة قريش وخوض المعركة ضد الشرك فى غزوة بدر. صراخ بعض الإعلاميين الزائد على الحد فى الدفاع عما يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم يؤمنون به دليل على «الاستئجار». وأنهم يتحركون وراء «العير» وحصد المكتسبات، و«تهليب» المال والأراضى والمكتسبات الأخرى، حتى ولو كانت متمثلة فى «عشوة».. الإنسان لا يصرخ على بضاعته إلا فى الحالات التى يريد خداع أو «خم» الزبون بها.
والمال فى الإعلام لا يأتى بتأجير القلم أو الحنجرة لجهة أو مؤسسة فقط. المال فى الإعلام يمكن أن يأتى بالتجارة، والتجارة هى الشقيقة الكبرى لمفردة «الإثارة»، وكلما كنت منحطاً زادت فرصك فى الإثارة وحصد المشاهدين والمستمعين والقراء، وهذا الحصاد يترجم عادة فى إعلانات تجعل صاحب المال أو الممول للنافذة الإعلامية سخياً معك، أما المجتمع ذاته فإنه يمكن أن يلعن فى علنه المنحطين، لكنه يحب أن يستمع إليهم فى سره!. فهو يهوى الفرجة على الخناقات، من أيام صراع الفرعون مع «موسى»، عليه السلام، يفضل المصريون المشاهدة، الخناقات أكثر الأحداث تزاحماً فى حياتنا، خصوصاً عندما يتفنن أطرافها فى استدعاء مفردات البذاءة من القاموس، والخناقات التى تحضر فيها الأعراض تكون أشد سخونة من وجهة نظر البعض، فيقبلون عليها وينصتون لها!. بعض الإعلاميين والإعلاميات يحفظون هذا الدرس جيداً، وتتحدد موهبتهم فى «صناعة الخناقة»، ليقبض بعد ذلك «الحِلوان»، ويكنز المال الذى جاء عن طريق بضاعة «الانحطاط»، ويكون من اليسير أن يذهب بعد ذلك فى مسالك انحطاط!.
أشعر فى أحوال بأن إعلامنا تحكمه نظرية «الشقق المفروشة»، بكل ما يتحلق حول هذا النوع من الشقق من مفردات وعبارات، مثل: السمسرة، الإيجار، الأعمال المنافية للآداب، إبلاغ الأمن، التقلب من زبون إلى زبون، والتركيز باستمرار على إصلاح «المراحيض» أكثر من أى شىء آخر فى الشقة!.