الصعيد: أول الجدعنة.. وآخر الغضب
صورة أرشيفية
الكتابة عن الصعيد وجع يشبه الحياة فيه.. هم ثقيل لا يتحمّله إلا من مر فى وادٍ ضيّق، يطبق عليه جبلان من الناحيتين، فيحولانه إلى مريض ربو يحرك رأسه يميناً ويساراً، ليلتقط نفساً يمد فى عمره لحظات، يدخل معها فى نوبة جديدة من الألم.
الفقر هو الإجابة التى تصفع أى مسئول يتحدث عن أرقام تنمية تمت، أو تتم.. تلك الحيلة التى تلجأ إليها الحكومات، «بتحلى» بضاعتها، وهى تحدثهم عن الصبر قليلاً، لأن الدولة قد انتبهت إليهم، وتعتذر عن تجاهل الحكومات السابقة، لتأتى الحكومة التى تليها، وتُكرر خطاب الاعتذار نفسه والوعود نفسها، دون أن يفكر أى مسئول «كيف يبيت أهل الصعيد داخل بيوتهم».. مَن الذى يطعم أسرة ضاق بها الحال حتى أصبح من يوفر لها «كيس سكر» و«زجاجة زيت» و«كيلو لحمة» فى المواسم أهم من الدولة.. الدولة نفسها لم تهتم بمعرفة من ملأ الفراغ الذى تركته داخل الصعيد.. فقط تذكرت تلك القرى البائسة عندما ظهر الإرهاب فى التسعينات، هنا أدركت الدولة أن مطاردة الإرهابيين تُعيقها الطرق البائسة، فكان القرار برصف طرق داخلية فى عدد كبير من القرى -لم يتبقَ من تلك الطرق الآن شىء إلا بقايا اختفت مع أعمال الحفر والردم- انتبه الأهالى إلى أن الدولة لم تهتم بالطرق، إلا لتوفر ممراً سريعاً لسياراتها، فزاد الوجع.
لا يصدق الصعايدة الحكومة أبداً..
نعم لا يصدقون الحكومة، لأنها لم تصدق معهم مرة، فتحول الصعيد مع الوقت إلى منطقة طاردة، من استطاع من أهلها الهروب إلى الوجه البحرى يمسك فى الفرصة، وينحت فى صخر الغربة، حتى يُحقق حلمه، ويتحول إلى تاجر أو مقاول أو مالك لمشروعات وشريك فى استثمارات.
.. فى الصعيد يطلقون على «القاهرة» اسم «مصر».. يتحدّثون عنها وكأنهم فى دولة أخرى، مفتاحها «محطة السكة الحديد»، أو «باب الحديد» الذى يحلم بالعبور منه طلاب، وحاصلون على مؤهلات متوسطة وعليا، وباحثون عن نصف فرصة، ليُطعموا بها أسرهم، التى تعانى من همّ ثقيل كلما ازدحمت صفحة «الشكك» عند أصحاب المحلات التى يبيعون لهم احتياجاتهم الأساسية بالأجل.
والحقيقة أن الصعيد لا يحتاج فقط إلى ملف للكتابة عنه، بل إلى محاكمات عاجلة لكل من تسبّب فى وصوله إلى تلك الحالة الغريبة التى لم يعرفها من قبل، والتى غيّرت شكل تعامل أهله ومكّنت التطرّف من التغلغل والسيطرة على أبناء ينتمون إليه.
هذا هو المنطقى..
فالأهم من معاقبة الإرهابيين والمتطرفين أن نضع معهم فى قفص الاتهام نفسه، من سمح لأفكار التطرّف بالظهور، وكل من مهّد التربة لهم، ومن تجاهل التقارير التى تُحذّر من عواقب ترك الأمور دون تدخل وكتب تقارير مزيفة، ومن صور الصعيد، على أنهم الـ«كام واحد اللى بيشوفوهم فى التليفزيون».
قرية واحدة فى مركز قفط بمحافظة قنا خرج منها أعضاء خلية نفّذت تفجيرات كنيستى طنطا والإسكندرية فى حادثين يضعان علامات استفهام كثيرة، على عقلية تنظيمات تغيّرت، وجعلت خلية واحدة مسئولة عن تنفيذ هجومين كبيرين خطط أحدهما لاستهداف البابا شخصياً.
هل تراجعت التنظيمات عن فكرة التأمين، واختارت خلية من المكان نفسه، أم أن درجة إيمان الأعضاء بفكرتهم كانت أقوى من الاختراق؟!
تركيبة الصعايدة تحمل جينات عدم الخوف، وعدم إفشاء الأسرار، والحفاظ على «القبيلة»، وهنا الكارثة، فمن دخل التنظيمات استبدل «القبيلة» بـ«الجماعة»، واستبدل معها الأفكار التقليدية للقتل والأخذ بالثأر الذى كان يُنفّذه وجهاً لوجه، بأفكار جديدة يتخفّى فيها بالمواد المتفجّرة داخل ملابس ثقيلة ثم يُنفّذ التفجير.. الصعيدى ليس جباناً ليتخفّى.. حتى التنظيمات التقليدية القديمة كانت عملياتها المسلحة تتم عبر المواجهة وجهاً لوجه.. حادث الأقصر الشهير كان مواجهة بالأسلحة.. وهنا مكمن الخطورة، لأننا أمام أجيال جديدة تربّت وهى ترى ظلم الحكومات ووجدت من يمنحها الأمان، ويوفر لها الأموال تحت حماية الدين.
«الوطن» قررت أن تفتح ملف الصعيد الذى تحمل العبء الأكبر فى تاريخ مصر، وأخرج أهم العقول فى كل المجالات، لنعرف ما الذى حدث، وكيف تغيّرت الظروف.
قرّرنا أن نكتب، لأن الصعيد وأهله يستحقون حياة أفضل واهتماماً أكبر ومعيشة كريمة، تشبه الصورة التى يرونها عن بيوتهم، وزرعهم وحياتهم فى المسلسلات.