تدوير الدقيق المدعم فى مصانع بير السلم
مافيا الدقيق المدعم، ومدمنو العيش الحرام، تضخمت أجسامهم وثرواتهم من أقوات المصريين، واستطاعوا بسط نفوذهم من خلال عقد صفقات مع العديد من أصحاب المخابز والعاملين بالمطاحن الحكومية، بهدف تجميع مئات الأطنان من الدقيق المدعم وإعادة تدوير وتعبئة الدقيق مرة أخرى وبيعه لأصحاب المخابز السياحية ومصانع المكرونة، ويتم شراء الدقيق المدعم من المخابز والمطاحن، ونقله إلى منطقتى أبوالغيط وسرياقوس اللتين تنتشر فى عزبهما هذه المصانع فى قلب محافظة القليوبية.[Image_2]
بعد الحصول على هذه المعلومات المبدئية، أصبح من الضرورى البحث عن كيفية عمل هذه المصانع ومن هم أصحابها. ولم يكن الوصول إلى الإجابة بالأمر الهين، بسبب وجود هذه المصانع وسط الأراضى الزراعية فى قلب العزب الصغيرة، بالإضافة إلى أن جميع من يعملون فيها من الأقارب وأهل الثقة، وبعد عدة محاولات باءت بالفشل لاختراق أحد هذه المصانع، استطعت إقناع أحد السائقين الذين يقومون بتوزيع الدقيق بالعمل معه كعتال عن طريق أحد معارفه.
وقبل أن ينتهى المؤذن من أذان الفجر، كما اشترط السائق «ف. ح»، كنت موجوداً أمام جراج السيارة بمنطقة شبر الخيمة، وكان هو مستعدا للتحرك، وطلب منى وضع الغطاء والحبل فى صندوق السيارة، وتحركنا، وقطع الصمت الذى لم يدم طويلا بقوله: «إحنا هنمر على الفرن وعمال الفرن هما اللى هيحملوا الدقيق وانت هتقف على العربية ترص الشكاير وتقوم بتغطيتها وتربطها»، وقلت له: «الموضوع بسيط»، وبمجرد وصولنا إلى أحد الشوارع فى حى المطرية وبعد إطلاق آلة التنبيه الخاصة بالسيارة، فتح عامل الفرن الباب وبدأ مع عامل آخر فى إخراج الدقيق فى صمت، وخلال عشر دقائق تم رفع 10 شكائر على السيارة، وبمجرد الانتهاء من تغطية الدقيق كان «ف. ح» قد انتهى من حساب أصحاب الفرن واستعد للتحرك. نفس الأمر تكرر فى مخبز ثانٍ وثالث ورابع حيث تم شراء 25 شيكارة من كل منها، لكن التحميل تم من الباب الخلفى بشارع جانبى.. الغريب فى الأمر أن ذلك يحدث أمام أعين المارة وأهالى المنطقة ولا يتكلم أحد. وبعد مكالمة أجراها «ف. ح» بصاحب فرن آخر أكد له أنه لا يوجد لديه دقيق اليوم، طلب منى تغطية الدقيق ومساعدته فى «تسليب العربية» -على حد تعبيره- ومع بزوغ ضوء الشمس تحركنا بالسيارة قاصدين منطقة سرياقوس حيث يقع أحد مصانع تدوير الدقيق فى عزبة «أ. ز» وسط الأراضى الزراعية ويديره شخص يدعى «و. ز» مع أشقائه. وكنت أعتقد أن دورنا ينتهى بتوصيل الدقيق وتفريغ حمولة السيارة، لكن ما شاهدته أثبت كذب اعتقادى، فما يحدث أكبر بكثير مما كنت أتوقع.[Quote_1]
إمبراطورية الدقيق بعزبة «أ. ز» بمنطقة سرياقوس، نموذج صارخ لسرقة قوت المصريين، تدار بواسطة شبكة من المسئولين فى مطاحن الدقيق وأصحاب المخابز ويتورط فيها بعض العاملين بمباحث التموين. المصادر التى يأتى منها الدقيق المدعم تتنوع بين العديد من المخابز والمطاحن وبعض متعهدى الدقيق، فالصدمة التى لم أتوقعها وجود سيارة نقل كبيرة تتبع أحد المطاحن الحكومية وتأتى بصفة شبه أسبوعية لتفريغ شحنتها -كما ذكر سائقها لأصحاب المصنع أنه لن يستطيع الحضور الأسبوع القادم وسوف يعوض الحمولة فى الأسبوع الذى يليه- بخلاف 3 سيارات نقل أخرى تتبع أصحاب المصنع تقوم بتجميع الدقيق وإعادة بيعه. فبمجرد وصول سيارة الدقيق يتم تفريغ حمولتها فى شادر كبير جدرانه بالطوب الأحمر من الخارج وسقفه بالصاج وله بابان الأول لإدخال الدقيق المجمع من المطاحن والمخابز والثانى يخرج منه الدقيق بعد إعادة تدويره، ويقسم الشادر من الداخل إلى قسمين؛ الأول خاص بإعادة تعبئة الدقيق والثانى خاص بعملية فصل الدقيق عن النخالة، ويحدد إلى أى القسمين يذهب الدقيق المدعم الإقبال والحاجة إلى المنتج المطلوب، ويقتصر دور القسم الأول على استبدال شكائر الدقيق المدعم ذات اللون الأخضر بأخرى عليها «بادج» أحد المطاحن الوهمية، ويصبح الدقيق جاهزا للبيع، بينما القسم الثانى يطلق عليه «المطحن» وهو عبارة عن ماكينات تقوم بفصل الدقيق عن الردة، يعمل على كل ماكينة عامل يكسوه اللون الأبيض من رأسه إلى أخمص قدميه، يقوم بتفريغ شيكارة الدقيق داخل الماكينة التى تقوم بدورها بفصل الدقيق إلى 3 أنواع، الأول دقيق أبيض ويتم بيعه على أنه دقيق زيرو، والثانى النخالة وهى الردة ويتم بيعها منفصلة، والثالث هو دقيق غامق اللون ويطلق عليه «سن» ويعاد طحنه ونخالته من جديد ويخرج منه دقيق أبيض و«ردة». وهنا يأتى دور عملية البيع، وكانت البداية بتحميل السيارة التى أعمل عليها بـ3 أنواع من الدقيق كل نوع له زبونه وفقا لاتفاق سابق كما فهمت من السائق «ف. ح»، الذى تحرك بالسيارة قائلا: «عايزين نخلص فى ساعة ونروح»، مؤكداً أن دورى هنا أن أقوم برفع الدقيق على ظهر العمال، موضحا أن النوع الأول وهو الدقيق الذى تم إعادة تعبئته فى شكائر أخرى 5 شكائر خاصة لفرن أفرنجى و10 شكائر لفرن عيش سياحى و5 شكائر لفرن أفرنجى آخر بالإضافة إلى شيكارة دقيق «سن»، بينما الطن الزيرو -يقصد الدقيق الأبيض الناعم الذى يباع على أنه دقيق زيرو- بالإضافة إلى 5 شكائر نخالة لتاجر علافة. بعد هذا الدرس الطويل الذى تلقنته من السائق أكدت له أننى فهمت ما يقصده جيدا، واستغرقت عملية التوزيع والبيع ساعة ونصف لأنها كلها كانت فى منطقة شبرا الخيمة، وبعدها قال السائق: «أدرك أنك تعبت اليوم»، مرجعا السبب فى ذلك إلى أنه اليوم الأول، وتركته على أن أذهب إليه فى اليوم التالى فجرا لنذهب إلى منطقة أخرى نجمع منها دقيق الغلابة، لكنى تحججت له بألم فى ظهرى مما دفعه إلى السخريه منى بقوله: «من أولها كده هتنام؟».[Image_3]
ومن خلال التواصل بالسائق وأحد العاملين فى المصنع اكتشفت أن العمل يبدأ فجرا بجمع الدقيق بسعر من 50 إلى 75 جنيها للشيكارة التى يحصل عليها صاحب المخبز بـ 8 جنيهات، ويقوم المصنع بإعادة تدوير الدقيق وتعبئته، ويتم بيع الشيكارة بـ125 جنيها للدقيق الأبيض الذى يباع على أنه دقيق زيرو، وكذلك شيكارة النخالة التى تزن 40 كيلو بـ65 جنيها. ولا تقتصر عملية البيع على أصحاب المخابز الأفرنجى أو السياحى وتجار العلافة فقط، بل تمتد إلى مصانع البسكويت والمكرونة وهؤلاء هم الزبائن الدائمون الذين تصل إليهم كميات ثابتة بصفة دائمة.
أخبار متعلقة:
«الوطن» ترصد: سرقة مليارات الدعم فى "شوال دقيق"
مغامرة مصورة لـ«الوطن».. اشترينا نصف طن دقيق مدعم من مافيا التهريب بـ1000 جنيه لم يعترض أحد
ألاعيب أصحاب المخابز لتسريب الدقيق من الباب الخلفى
أباطرة تجارة «العيش الناشف»
دعم الغلابة يتسرب إلى السوق السوداء علناً.. ويصل محال الفول والطعمية «ديليفرى»
أصحاب المخابز: «لو بطلنا نبيع الدقيق.. نموت»