أباطرة تجارة «العيش الناشف»
العيش الناشف.. صورة أخرى من صور إهدار دعم الخبز، وهو العيش الزائد عن احتياجات الأسرة أو الفائض اليومى من العيش المدعم فى كل بيت، يتم بيعه «ناشف» لسريحة تخصصوا فى جمع هذا العيش مقابل 50 قرشا للكيلو، وتكون المحصلة كميات ضخمة جدا من العيش المدعم لايستهان بها تقدر بمئات الأطنان، اتخذ منها بعض الأشخاص تجارة يبلغ رأسمالها مئات الآلاف من الجنيهات، ولها سوق رائجة وموسم تنشط وتزدهر فيه.
يمتهن هذا المهنة العديد من أهالى قريتى كوم أشفين وميت حلفا وغيرهما من قرى قليوب بمحافظة القليوبية منذ عشرات السنين وتوارثها بعضهم عن آبائهم، ومعظم هؤلاء مواطنون بسطاء يسعون إلى الكسب وليس لهم أى ذنب فى إهدار دعم الخبز، ولكن استهلاك المواطنين الخاطئ هو السبب فى إهدار هذه الكميات الكبيرة من العيش المدعم وضياع جزء من المليارات المخصصة للدعم هباء منثورا دون تحقيق الهدف المنشود وهو وصول الدعم إلى مستحقيه.
ينقسم العيش الناشف إلى 3 أنواع وفقا للعاملين فى هذا المجال، الأول عيش «السرحة» كما يطلقون عليه وهو العيش الذى يجمعه السريحة من المنازل وغالبا يكون خليطاً بين العيش البلدى والسياحى والشامى والفينو، ويبدأ سعرالكيلو من 50 قرشا وحتى 75 قرشا حسب جودة العيش ونوعه ويسلم إلى التجار بـ125 قرشا، بينما النوع الثانى هو العيش «الموحد» وهو عيش المخابز البلدى المدعم الذى يتم شراؤه من الفرن بسعر 8 قروش بدلا من 5 قروش للعيش الطرى ثم يتم تجفيفه، وإذا تم شراؤه «ناشف» من الفرن يبدأ سعر الكيلو من 75 قرشا وحتى جنيه ويباع إلى التاجر بـ150قرشا والأخير هو العيش «السحلة» وهذا النوع لا يصلح للاستخدام الآدمى بسبب حرقه أو عيوب تصنيعه ويباع الـ 100 رغيف بـ 7 جنيهات.
مع بزوع شمس كل صباح يخرج «سيد» ذو الخامسة عشر عاماً مثل معظم أبناء القرية على عربة كارو يجرها حمار ضعيف يحركها بصعوبة بالغة، بجواره ميزان متهالك وعدد محدود من «الشكاير» الفارغة لا يتجاوز أصابع اليدين، قاصدا أحد الأحياء الشعبية فى محافظة الجيزة أو القاهرة.
بصوت مرتفع ينادى «سيد»: «عيش ناشف للبيع» وهو يجوب الحوارى الضيقة، وفى استجابة لندائه، تتساقط «الأسبتة» المكبلة بأحبال من البلكونات أو تخرج بها سيدات البيوت أو الأطفال ويقوم بتفريغ ما بها من عيش ودفع المقابل المادى بعد حساب الكميات بالكيلو حيث لا يتجاوز سعر الكيلو 75 قرشاً أو«بالشروة» على حد تعبيره التى يقدرها هو، وتنتهى جولته التى لا تستغرق أكثر من أربع أو خمس ساعات بمجرد نفاد الأموال التى يشترى بها أو امتلاء العربة بالعيش، ثم يقوم بتعبئة ما تم جمعه من العيش فى شكائر ويتحرك إلى قريته مرة أخرى، وهناك تبدأ مرحلة أخرى.
يمر العيش المجمع بعد ذلك بعدة مراحل، تتحدد حسب قدرات العاملين بها، فالتاجر الصغير يقوم بالبيع مباشرة لأحد التجار الكبار ويحصل على مكسبه 25 قرشا فى الكيلو، بينما هناك بعض التجار الذين يقومون بعملية فصل وفرز للعيش، حيث يتم فصل الفينو عن البلدى الذى يعتبر أغلى فى السعر وكذلك السياحى عن الشامى، وبعدها يتم تجفيف العيش من خلال نشره ليومين لكى ينشف تماما، وبعدها يقرر إذا كان سيقوم بالبيع أم يقوم بتخزينه لبيعه فى الموسم.
وتبقى الكلمة الأخيرة لأباطرة هذه التجارة، فهم الذين يتحكمون فى السوق وهم الذين يحددون الأسعار، فهى مثل أى تجارة أخرى تخضع للعرض والطلب وتستخدم فيها استراتيجيات البيع والتسويق مثل إغراق أو تعطيش السوق بهدف رفع السعر، ويعتبر موسم هذه التجارة كما يؤكد «خ. ر» أحد تجار العيش بقرية كوم أشفين قبل عيد الأضحى موضحا أن الموسم يتم الاستعداد له بعد عيد الفطر مباشرة، مرجعا السبب إلى اهتمام المزارع و«الزرائب» بتسمين المواشى والخرفان استعدادا لبيعها «أضاحى»، وتعتبر السوق الرئيسية لترويج «العيش الناشف» فى القرى والنجوع والعزب التى تنتشر فى محافظات مصر المختلفة، وزبائنها هم مربو الطيور والحيوانات وأصحاب المزارع والزرائب وجزء منها يذهب إلى مزارع الأسماك، بينما المفاجأة التى لم أتخيلها ماجاء على لسان «خ. ر» أن العيش الناشف يدخل فى العجينة التى تصنع منها الطعمية، مؤكدا أن من ضمن زبائنه أصحاب محلات الفول والطعمية فهو يجعل الطعمية «تنفش» على حد تعبيره.
ويباع «العيش الناشف» إلى تجار العلافة والحبوب الذين يقومون بشرائه بالطن ويقومون ببيعه بالكيلو أو بالشكارة ويباع للمستهلك بـ 175 قرشا وكأنه سلعه مقننة ومسموح بتداولها.
ويستمر مسلسل إهدار دعم العيش بشراء الأهالى العيش المدعم من المخابز يوميا ويتركونه حتى ينشف تماما ثم يقدم للطيور والمواشى بدلا من العلف ويبرر «حسن عبدالله» فلاح الإقبال على شراء العيش بأن أسعار العلف مرتفعة جدا مقارنة بالعيش الذى يباع فى الفرن، مضيفا أن عيش الفرن سيئ جدا لايصلح للاستخدام الآدمى، فنحن لانأكل منه، وإنما نشتريه للطيور، وهو ما أكده مركز المعلومات بمجلس الوزراء أن 74% من الأسر التى تعتمد على الخبز غير المدعم فى الحضر مقابل 70% فى الريف يرجع إلى أن جودته أعلى من الخبز البلدى المدعم.
كشفت دراسات عن نمط الاستهلاك الغذائى قام بها المركز أيضا أن من بين كل 20 رغيفا بلديا مدعما يتم استهلاكها فى مصر منها 12 رغيفا يتم اسيتراد القمح المستخدم فى إنتاجها من الخارج، بينما هناك أطنان من العيش المدعم الزائد على احتياجات الأسرة تباع إلى السريحة ويصبح العيش المدعم طعاما للطيور، فخلال فترة لا تتجاوز شهرين قبل عيد الأضحى الماضى تم بيع أكثر من 100 طن عيش ناشف كما أكد «ق. ف» أحد العاملين مع تاجر عيش بقرية كوم أشفين، السؤال الآن لماذا لاتشترى كل أسرة ما يكفى احتياجاتها من الخبز المدعم بدلا من إهدار آلاف الأطنان من العيش المدعم؟ لابد من تقويم الاستهلاك السلبى للمواطنين، فالطريق الوحيد لترشيد الإنفاق.. هو ترشيد الاستهلاك.
أخبار متعلقة:
«الوطن» ترصد: سرقة مليارات الدعم فى "شوال دقيق"
تدوير الدقيق المدعم فى مصانع بير السلم
مغامرة مصورة لـ«الوطن».. اشترينا نصف طن دقيق مدعم من مافيا التهريب بـ1000 جنيه لم يعترض أحد
ألاعيب أصحاب المخابز لتسريب الدقيق من الباب الخلفى
دعم الغلابة يتسرب إلى السوق السوداء علناً.. ويصل محال الفول والطعمية «ديليفرى»
أصحاب المخابز: «لو بطلنا نبيع الدقيق.. نموت»