مغامرة مصورة لـ«الوطن».. اشترينا نصف طن دقيق مدعم من مافيا التهريب بـ1000 جنيه لم يعترض أحد
فى منطقة «أم المصريين» بمحافظة الجيزة، إحدى المناطق الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية؛ حيث ينتشر بين مساكنها ومبانيها العشوائية كثير من المخابز البلدية، بعضها تابع للحكومة وأخرى خاصة، أجرينا جولة بالمنطقة، حتى صادفنا أحد المخابز ذا الصيت الذائع، ويشهد له زبائنه ببيع الدقيق نهارا جهارا من بابه الخلفى، الذى يقف أمامه بعض نفر يسمونهم من يقفون فى الطابور «المحظوظين»، بسبب علاقتهم بأحد العاملين بالمخبز الذى يبيع لهم «عيش مخصوص»، على حد تعبير «عم فتحى» الرجل الخمسينى الذى يسعى جاهدا أن يحكم قبضته المرتعشة على عصا يتكئ عليها، أثناء وقوفه فى طابور الخبز، وأتبعها بقوله: «إحنا بناخد السحلة، كأننا حيوانات».
على فترات متقطعة يُفتح الباب الخلفى ليخرج العيش المخصوص للمحظوظين، وفى إحدى المرات يُفتح الباب بعد توقف شاب يبدو من ملامح وجهه أنه لم يتجاوز العشرين عاما، راكبا «موتوسيكل» صينيا، ينادى: «يا محمود»، ليخرج له بشكارتى دقيق بلدى مدعم، ليأخذهما إلى مكان مجهول.
وقبل أن يوصد الباب فى وجهنا، تحدثنا مع أحد العاملين وطلبنا منه شيكارتى دقيق، وبلغة العاملين فى المخابز قلنا بصوت عال: «عاوزين شيكارتين دقيق»، وأضفنا أن «فيه توك توك جديد فى منطقة المساكن، محتاج شيكارتين دقيق». والتوك توك بلغة الخبازين هناك يُقصد به «فرن أفرنجى». وبنظرة المتفحص نظر محمود لنا، من فوق لتحت، وحتى لا يتسرب إليه الشك، طلبنا منه توصيل الشيكارتين إلى الفرن الأفرنجى، مقابل ما يريد، مع وعد بأن نكون زبائنه منذ اليوم.
«سعيد لسه واخد الدقيق الزيادة كله امبارح».. هكذا جاءت إجابة محمود، فسألناه عن سعيد، فقال: «سعيد عبدالجواد، لو عايز طن هتلاقى عنده، هو بيجمع الدقيق من الأفران كلها وبعدين يبيعه». فقلنا له: «ادينا شيكارة نمشى بها حالنا دلوقتى، وبعدين تُفرج». صمت برهة، ثم مد يده قائلا: «هات 90 جنيه، واصبر عشر دقايق الدنيا تهدى». وقبل انتهاء الدقائق العشر أخرج الشيكارة أمام الناس، طالبا منا تغطيتها، ليس خوفا من الناس أو مباحث التموين، بل خوفا من أن يرانا أحد أبناء سعيد عبدالجواد، وهو ما حدث، قبل وضعها على الدراجة، والغريب هو رد فعل بعض الأهالى الذى لم يتجاوز نظرات غاضبة على استحياء، متبوعة بمصمصة شفاه، ولم يستطع أحد الاعتراض ولو بكلمة واحدة، ربما خوفا من التعرض للأذى فى ظل الانفلات الأمنى الذى تعانيه المنطقة التى تعد بؤرة لبعض المسجلين خطر.
وفى اليوم التالى ذهبت إلى المنطقة ذاتها، محاولا الوصول إلى «سعيد عبدالجواد» تاجر الدقيق المدعم الذى يتولى جمع الدقيق من المخابز وبيعه للمخابز الأفرنجى والسياحى والتجار وغيرهم، وكانت المفاجأة أنه ليس بمفرده، إنما يعمل معه أبناؤه وزوجته وأحد المسجلين خطر، ويدعى أحمد عرابى، ويتولى «سعيد» الإشراف على عملية التجميع والتوزيع والبيع.
كان التحدى هو البحث عن طريقة منطقية ومقنعة لنتمكن من شراء الدقيق من «سعيد». ذهبنا إلى الفرن مرة ثانية، فى انتظار «عكاشة»، أحد أبناء «سعيد»، كما قال أحد العاملين بالمخبز، عندما علم برغبتنا فى شراء نصف طن دقيق، مؤكدا أنه لا يستطيع إخراج تلك الكمية خوفا من «سعيد» الذى يأخذ منه يوميا 15 شيكارة، يجرى نقلها على دفعات، كل دفعة شيكارتين إلى مخزن ليُعاد بيعه مرة أخرى، لأصحاب المخابز السياحية المنتشرة فى المنطقة، وتبيع رغيف الخبز بـ25 قرشا.
بعد 20 دقيقة انتظارا، جاء «عكاشة»، فقال له العامل: «الرجل ده فاتح توك توك (مخبز أفرنجى) وعايز نص طن». لم يشك عكاشة لحظة واحدة فى وجود خدعة، وربما بسبب شقيقه وصديقه المسجلين خطر، ما جعله يتصور أن أحدا لا يجرؤ على خداعه. قال «عكاشة»: «هتشيله على إيه؟»، فكان الرد: «هجيب عربية، لكن أنا بعرفك من دلوقتى علشان تجمعهم ويكونوا جاهزين». فقال: «لو عايز 50 شيكارة أجيب لك دلوقتى، هما جاهزين فى أى وقت». تركناه بعد تحديد موعد فى الغد لدفع الفلوس وشراء الدقيق، ثم اتفقنا مع سائق سيارة ربع نقل، الذى استغل الموقف، مطالبا برفع الأجرة إلى الضعف، قائلا: «أنا عايز 200 جنيه، لأننى هحمل ممنوعات».
وفى صباح اليوم التالى اتصلت بـ«عكاشة» وأخبرته أننا أمام الفرن، فكان رده: «دقيقتين هكون عندك»، وبمجرد وصوله قال: «تعالى ورايا» وسرنا معا حتى وصلنا لمدرسة محمد فريد وفتحت والدته المسئولة عن البيع المحل، وحمل اثنان من أبنائها 10 شكائر، وأخذت منا 1000 جنيه، ثمن نصف طن دقيق، ثم طلبت إعطاء 20 جنيها لابنيها اللذين حملا الشكائر إلى السيارة، ثم تحركنا قاصدين مقر «الوطن» بمنطقة الدقى، متوقعين أن توقفنا الشرطة فى الطريق، خاصة أثناء مرورنا بميدان الجيزة وقبله شارع ربيع الجيزة ومرورا بجامعة القاهرة، ومنه إلى شارع التحرير، ثم محيى الدين أبوالعز، حتى توقفت السيارة أمام المقر دون أن يتعرض أحد لنا، حتى أثناء إنزال شكائر الدقيق من السيارة، ولو بالسؤال.
أخبار متعلقة:
«الوطن» ترصد: سرقة مليارات الدعم فى "شوال دقيق"
تدوير الدقيق المدعم فى مصانع بير السلم
ألاعيب أصحاب المخابز لتسريب الدقيق من الباب الخلفى
أباطرة تجارة «العيش الناشف»
دعم الغلابة يتسرب إلى السوق السوداء علناً.. ويصل محال الفول والطعمية «ديليفرى»
أصحاب المخابز: «لو بطلنا نبيع الدقيق.. نموت»