حسام شاكر يكتب: سفارات الصعايدة فى العاصمة
حسام شاكر
اعتاد الصعيدى منذ نشأته على الترحال للقاهرة نظراً لضيق العيش وندرة الخدمات، وعندما يصل إلى العاصمة ينبهر بأنوارها وتمدنها ويندهش من زحامها إلا أنه يعشق هذه الزحمة ويصير جزءاً منها فيما بعد حينما يتزوج ويتكاثر فيها فتنتشر جيناته فى حواريها وشوارعها ويحرص أشد الحرص على إقامة علاقات اجتماعية لتعويض ما افتقده عن فراق الأهل فيبحث عن مقر سفارة بلده الجديد (جمعية أبناء الصعيد بالقاهرة، جمعية أبناء سوهاج، جمعية أبناء قنا، أبناء النوبة، أبناء أسوان... إلخ)، وكأنه فى هجرة داخلية حيث يلتقى مع أبناء بلدته فى مناسبات الأفراح والأتراح، تبدأ هذه السفارات بجمع الأموال من أبناء المحافظة أو القرية لشراء مقر مستقل ثم فرشه وتجهيزه إلى أن يكون جاهزاً لعقد الحفلات واللقاءات ويكون داعماً للراغبين فى خوض الانتخابات ومكاناً متميزاً للحصول على الخدمات والإعانات. ورغم حرص الصعيدى على التواصل مع أبناء قريته أو محافظته فإن فيه طبعاً عجيباً وهو المكوث الطويل فى القاهرة فهو صبور على أكل عيشه سريع التأقلم مع الحياة الجديدة لا يعود إلى بلدته إلا قليلاً، ففى العام يسافر مرة أو مرتين باستثناء حالات الطوارئ التى لا عذر له فيها كالعزاء، ويكافح فى العاصمة حتى يكون ذا قيمة يفتخر بها أهله فتجد «بلدياتنا» يبدأ بواباً فى العمارة وبعد سنوات تكتشف أنه صار مالكاً لها، ومعيداً فى الكلية إلى أن يصبح رئيساً للجامعة أو وزيراً، وصحفياً تحت التدريب يعانى من مشقة المهنة إلى أن يعتلى اسمه ترويسة الصحيفة فيكون رئيساً لتحريرها، وحتى عندما يكون شخصاً مهماً فليس لديه الوقت الكافى للسفر للصعيد إلا فى الطوارئ (العزاء أو الأعياد). وتجد الصعيدى يجتهد حتى يبلغ مراده فمن الطُرف التى تذكر أنه عندما تحدث الأجانب عند صعودهم للقمر سألهم الصعايدة «ماذا وجدتم؟»، فقالوا «رأينا أبراجاً»، فقال الصعايدة «نحن من حملنا الطوب والأحجار والرمال إليها».
لن أبالغ إذا قلت إن الصعايدة أسهموا وكانوا سبباً رئيسياً فى نهضة مصر، فقد كانت العاصمة قديماً طيبة وعندما جاء العصر الحديث وأراد محمد على النهضة بمصر كان إمام البعثة لفرنسا رفاعة الطهطاوى وكانت بداية الجيش النظامى المصرى من أسوان، وحينما تفتحت أعين المصريين على الصحف والمجلات كان رفاعة الطهطاوى ابن طهطا رئيساً لتحرير «الوقائع المصرية»، والشيخ على يوسف، ابن بلصفورة، رئيساً لتحرير «المؤيد» التى جُمعت عن طريقها التبرعات لبناء جامعة القاهرة.
نهاية المطاف أن كثيراً من الصعايدة ينغمسون فى معيشة القاهرة لكنهم يظلون محتفظين بلهجاتهم التى تختلف من بلدة إلى أخرى، ويبتعدون عن بلادهم كثيراً ويمر بهم العمر إلى أن يحين قرب الأجل فيوصون بالدفنة فى مسقط رؤوسهم بالصعيد فتلبى سفارته بالقاهرة طلبه وتنقله بسيارة تكريم الموتى لبلدته التى نشأ فيها فكم من مسكن يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل.