صلاح البلك يكتب: "الاختيار" ينتصر لأهلنا في سيناء
صلاح البلك
فارق كبير بين متابعة السواد الأعظم من المشاهدين لأعمال الدراما المذاعة خلال شهر رمضان، والتى يحركها الفضول والتسلية وقتل الوقت، وبين من عايش من أبناء سيناء أحداثاً جساماً كان يتهدده الموت خلالها وفجّرت فى رأسه آلاف الأسئلة التى لم يعثر لها على إجابة إلى يومنا هذا وتحولت إلى عمل درامى.
فى كل بيت وعلى ناصية كل حارة ذكريات ومشاعر وأحاسيس يستحضرونها مع ما يشاهدونه بقلوبهم، لا يملكون خياراً وهم يشاهدون مسلسل «الاختيار» سوى التخلى عن عين الناقد ليتمكنوا من مشاهدة ممتعة لقصة ضابطين مصريين من المتميزين والنتاج الطبيعى لجيش له هذا التاريخ العريق.. مدرسة خرج منها سلسلة من الأبطال لم نعرفهم جميعاً ولكن ما عرفناه يكفى لنقف طويلاً أمام طبيعة الشخصيات وأبعادها الإنسانية المذهلة.
صحيح أن أحدهما اختار طريقاً لا نقره، ولكن يبقى أن كلتا الشخصيتين تعبّران، وبدقة متناهية، عن طبيعة المجتمع المصرى وما آل إليه من انقسامات بين أطيافه كنتيجة طبيعية للتراخى فى مواجهة التطرف والداعين له، حتى وصل إلى ضابط كان يُفترض به أن يكون رمزاً للوطنية مشابهاً للمنسى، إلا أنه اختار الطريق المعاكس وصار رمزاً للتطرف الدينى وأداة بيد الشيطان إلى أن هلك.
«المنسى»، وإن تصور البعض أن المسلسل يبالغ فى تصوير شخصيته ومثاليته وإضفاء صفات النبل والقوة والالتزام عليه، إلا أن الحقيقة وما رواه مَن حوله تتطابق مع أحداث المسلسل، وهو ما لمسته من خلال الموضوعات الصحفية التى نُشرت عنه منذ استشهاده.
أسطورة الصاعقة المصرية اكتسب شهرته قبل الشهادة بين أقرانه من أفراد وضباط الجيش ولم نعرفه نحن إلا بعدها، ما يؤكد أننا أمام واحدة من مئات القصص التى لم تعلن بعد.
كل أهل سيناء كانوا على علم بأنهم ضحية قوى الشر والتطرف التى اختارت سيناء أرضاً للمعركة، وأعملت القتل فى أهلها وذبحت منهم رجالاً ونساءً بل وأطفالاً فى مشهد دام طويلاً حتى ساورهم الشك أنه بلا نهاية.
جاء المسلسل بعد سنوات من حرب بدأت ولم تنتهِ بعد أن سقط خلالها المئات من الشهداء من المدنيين والعسكريين، وظل المصريون يتلقون الأخبار وحدها للتعرف على ما يحدث على أرض سيناء دون أن يفكر أحد فى عمل درامى يرصد إحدى تلك البطولات ويكشف النقاب عن حقيقة ما جرى فى مصر خلال السنوات الماضية، من خلال رصد المعارك ورجالها مقروناً بالأحداث السياسية والتحولات الفكرية لأفراد المجتمع وكيف تم تضليله واستقطاب بعض عناصره، ليشنوا حرباً ضروساً ضده لا لشىء سوى أوهام وضلالات غرسها تجار الدين.
يتحلق أهل المدن والقرى فى طول سيناء وعرضها حول شاشات التلفاز يدققون النظر والسمع حتى لا تفوتهم فائتة علها تنصرهم فى معركة قدّموا فيها كل نفيس وضحوا بخيرة شبابهم من أجل هذا الوطن فيما ينكر عليهم البعض ذلك ولا تنصفهم سوى سجلات الشرف العسكرى الزاخرة بقصص بطولاتهم، ومئات الحاصلين على «نجمة سيناء» أعلى الأوسمة العسكرية المصرية.
أنصفهم المسلسل فى أكثر من حلقة بدأت فى «أهل سيناء» واستمرت مع كل حلقة كاشفاً عن دور واحد من أبرز الشخصيات الصوفية على مر التاريخ «الشيخ سليمان أبوحراز» والذى أبلغ عن ابن شقيقه ليلقى حتفه فيما بعد على يد جماعات التكفير وقد تجاوز التسعين عاماً وانتقم منه التكفيريون فى أتباعه حين قتلوا بدم بارد ما يزيد على ثلاثمائة مُصلٍّ فى صلاة الجمعة بمسجد الروضة فى أكبر مذبحة عرفها تاريخ المنطقة داخل دار عبادة.
بقيت مئات القصص طى الكتمان، وهو ما لم يُشبع رغبتهم بالقدر الكافى، وبقيت مطالبتهم بعمل درامى يخلّد دورهم إلى جوار جيش بلادهم ترافقهم كل ليلة فى انتظار قبس من ضوء أو كلمة تذكرهم بخير فى ثنايا الأحداث.
بلغ تأثرهم حداً لا مثيل له، وجاء ما فعله 18 طفلاً من أبناء «حى أبوصقل»، بالعريش من مراحل عمرية مختلفة أطلقوا على أنفسهم «كتيبة الشهيد المنسى» فى توفير وجبات إفطار للعابرين على الطرق لحظة الإفطار وإهداء ثوابها لروح الشهيد أحمد المنسى ورفاقه الذين استشهدوا على أرض سيناء، ليبرهن على مصداقية العمل الفنى وصدق أحداثه وإسهامه بشكل كبير فى بث روح الوطنية وغرس الأمل فى النفوس أن ساعة الخلاص قد حانت، وأن جيش مصر فى قلوب أهل سيناء صغاراً وكباراً.
يجب ألا تتأخر مثل هذه الأعمال الدرامية التى يُعوَّل عليها فى بث الروح الوطنية وإعلاء قيم التضحية من أجل الوطن، خاصة فى ظل هذه الظروف الصعبة والحرب التى شنتها جماعات التطرف الدينى والتكفير الذين لن يتوقفوا عن ذلك بالسلاح أو بنشر عقيدتهم.
نجح المسلسل فى حلقاته الأولى فى رصد رحلة «هشام عشماوى» إلى التطرف من خلال مشاهد مبسطة خلال مراحله السنية المختلفة، وأجواء أسرته المتشددة التى قادته إلى تلك النهاية.. وفى المقابل كانت رحلة المنسى ونشأته فى أسرة معتدلة متدينة أيضاً، وباتت المقارنة حاضرة فى كل مشهد، تاركة الحكم للمشاهد ليقرر موقفه من الاعتدال والوسطية فى أسرة المنسى، فى مواجهة التشدد فى أسرة عشماوى، التى قادت كل واحد إلى مكانته التى نعرفها جميعاً كمشاهدين عاصروا معظم الأحداث الواردة بالمسلسل أياً كانت علاقتهم بالسياسة، كونها ترسخت فى ذاكرتهم بحكم معايشتهم لها.
المنسى فى عيون أهل العريش هو الضابط البشوش سمح الوجه الذى زار المدارس وداعب الأطفال ورافق قوافل المساعدات وتلطّف فى تعامله مع العامة حتى صار يعرف الناس وكأنه أحد أفراد عائلاتهم.. كان يواجه عدوه بالفكر ويسعى لتغيير المفاهيم التى حاول التكفيريون ودعاة التطرف غرسها وتغيير وجه المجتمع عن طريقها، المنسى كان يحاربهم بعقله وسلاحه وصارت طريقته كمقاتل دليلاً ودرباً طبقها من بعده ضباط آخرون مثل «شريف العرايشى» و«إسلام حبيب» وأصبحت للمقاتل شعبية تفوق السياسى، وفى ميدان المعركة المأهول بالسكان صارت رؤيتهم فى شوارع العريش تبعث على الطمأنينة وتزيل الخوف.
رحل المنسى مبكراً وقبل أن تكتمل المهمة، وصار مصدراً للإلهام ليس فقط لأفراد الجيش، بل أيقونة ورمزاً جسّد كل الصفات المثالية للشخصية المصرية المتوازنة، وأحدث نوعاً من الإشباع للباحثين عن «المثل الأعلى» والبطل الذى لم يظهر منذ نهاية حرب أكتوبر التى مر عليها قرابة نصف قرن، غاب خلالها هذا النموذج الذى ينتظره المصريون ليستعيدوا ذاكرة البطولة وصار لزاماً على الجهات المسئولة فى الدولة المصرية عدم حجب أو تأخير نشر مثل هذه القصص والبطولات.
أكثر أهل الأرض حاجة للاطلاع على مثل هذه الأعمال سكان أرض سيناء.. مصريون يدفعون ثمناً باهظاً بالنيابة عنا جميعاً، يحتاجون معه إلى من يربت على أكتافهم ويؤكد لهم مكانتهم فى قلوب المصريين ويجيبهم عن كل تساؤل يدور فى صدورهم.. كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟. حان وقت الإجابة التى نجح المسلسل فى تقديم جزء كبير منها وكشف النقاب عن ضخامة وخطورة المواجهة التى قدمها رجال القوات المسلحة المصرية.. سؤال واحد دون غيره يطرحونه وكأنهم يأبون تصديق النهاية المعلومة «هو صحيح المنسى استشهد؟».
حققت الحلقات الأولى أكثر من مائتى مليون مشاهدة فى مصر والعالم العربى، ما يبشر بعودة القوة الناعمة المصرية بقوة واستعادتها مكانتها من خلال هذه النوعية من الأعمال الفنية التى توافرت لها كل عوامل النجاح من حيث التناول والإمكانيات الضخمة وكافة عناصر النجاح.
عاودنا السيطرة على ساحة الدراما العربية واستحوذنا على اهتمام المشاهدين بفضل هذه النوعية من الأعمال، ما يستوجب الإمساك بالفرصة وإنهاء أى وجود للدراما الموجهة من القوى المعادية لمشروع الدولة المصرية الحديثة.. من لها إذا لم يكن الفن الهادف والإعلام الواعى القادر على صناعة الوعى الجمعى الذى نحتاجه لصناعة مستقبلنا.