المخدرات في زمن كورونا.. حكايات انتكاس وصمود المتعافين أمام قسوة الحظر
أحمد منسي مع أصدقاءه بعد تعافيه من الإدمان
لم تمر ساعات الحجر المنزلي التي فرضتها أزمة فيروس كورونا المستجد على دول العالم أجمع، بسهولة على فئة المتعافين من الإدمان، فقد كانت بمثابة شبح يداهمهم من حين لآخر، يأتي إليهم كل يوم حاملًا أفكارًا شيطانية مغلفة بمشاعر من اليأس والقلق، يحاول سحبهم من جديد إلى عالم مجهول محاط بأسوار من حديد، تركه ليس بأمر يسير والبقاء فيه يقود إلى الهلاك، وما بين هذا وذاك، نجح بعض المدمنين في مواجهته بعزيمة من حديد، رافضين الانتكاس والعودة إلى النفق المظلم من جديد، وآخرين استسلموا له وعادوا معه لنقطة الصفر، انصاعوا لوساوسه وظنوا أن المخدرات هي الحل للتغلب على قيود تلك الفترة.
بعدما أغلقت النوادي الاجتماعية وصالات الجيم وقاعات المحاضرات النفسية أبوابها في وجه تلك الفئة، وحال الحظر بينهم وبين ممارسة كل أشكال الترفيه عن النفس، بات الكثير منهم فريسة للتفكير في العودة إلى الإدمان.
كل ذلك واجهه أحمد منسي، المتعافي من الإدمان منذ عامين و10 أشهر ويومين، بطرق شتى، وضع لنفسه روتينًا يوميًا التزم به طيلة الأشهر الماضية، يبدأ يومه بقراءة ما يحلو له من كتب علم النفس والفلسفة التي يهواها، يستمع خلالها إلى موسيقى هادئة، يقول منسي، "بتقلل إحساس التوتر عندي في أول اليوم".
منسي بدأ الإدمان في عمر الـ12 وتعافى منذ عامين و10 أشهر
علاقة منسي مع المخدرات بدأت بـ"سيجارة" في عمر الـ12، وتطور الأمر إلى تعاطي أنواع مختلفة من المواد المخدرة التي أدمنها حين بلغ الـ15 من عمره، واستمر على هذا الوضع 3 سنوات، حتى اتخذ قرارًا بالعلاج، ومضت الشهور وبدأ الشاب العشريني في التعافي، تلك المحنة التي وصفها بـ"السبب اللي خلاني أكتشف قوتي وصلابتي ومبقتش أسمح للظروف تأثر فيا تاني"، واتضح ذلك جليًا في صموده خلال أزمة كورونا التي انتكس على إثرها الكثير من حوله.
العبء النفسي الواقع على الشاب العشريني بعد حرمانه من الأنشطة الرياضية، ومحاضرات الدعم النفسي الجماعي للمتعافين، في محل إقامته بمحافظة الإسكندرية، تضاعف بتلقيه خبر إصابة والدته في بداية أزمة فيروس كورونا، حيث بات يواجه فراغ الحظر وقيوده، التي يحذر منها أطباء الصحة النفسية للمتعافين، وشعوره بالقلق على والدته، إلا أنه وبحسب روايته لـ"الوطن" بات يستغل فراغه في اصطحاب والدته إلى جلسات العلاج الكيماوي ودعمها معنويًا،"لو كان ده حصل زمان كنت هتعامل مع الموقف بالمخدرات، دلوقتي اكتشفت قوتي وقادر أدعم اللي حواليا كمان".
القراءة وكتابة الشعر ومحاضرات أونلاين وسيلة منسي لمواجهة شبح الفراغ
أخبار شبه يوميه لانتكاسات أشخاص في دائرة معارف منسي، لم يصمدوا أمام إحساس قلة الحيلة و"الحبسة في البيت"، دفعت الشاب السكندري المتعافي، لإضافة فعاليات أخرى إلى روتينه اليومي، اقتسم الساعات بين مساعدة والدته في أعمال البيت التي يستطيع القيام بها، والاستماع إلى محاضرات الدعم النفسي عبر الإنترنت، إلى جانب التواصل مع أصدقائه المتعافين وغيرهم، "بحاول أدي الناس طاقة أمل، إحنا اتحسبنا قبل كده شهور في المصحة ومهما كانت قعدة البيت مؤلمة إحنا عشنا ظروف أصعب من كده وهتعدي".
رغم صعوبة الأيام وبطء الساعات، وجد منسي في كتابة الشعر متنفسًا للترفيه عن نفسه، بدأ تطوير مهارته بها وتحسن بالوقت مستوى كتابته، لم يكن مواجهة الفراغ أمرًا يسيرًا، إلا أنه وبحسب قوله، "حاولت لإني مش عايز أرجع للي كنت فيه تاني".
107 أيام بالتمام والكمال، هي المدة التي مرت على نجاح منسي في الإقلاع عن التدخين كواحدة من مكاسب أزمة كورونا بالنسبة له، لاحظ خلالها تغييرًا في شخصيته وتعديلا لبعض سلوكياته، وانقلبت المحنة إلى منحة له، بحسب وصفه.
مينا: شغلت وقتي بدروس دعم نفسي على برنامج زووم في إطار الخدمة في الكنسية
الخدمة في الكنيسة لدعم الشباب المدمن والمتعافي نفسيًا من خلال محاضرات يتم بثها عبر موقع"زووم" عبر الإنترنت كانت وسيلة مينا سمير، مدمن متعافي من المخدرات، لمواجهة ساعات الفراغ التي نتجت عن قرارات الحظر والحجر المنزلي خلال أزمة فيروس كورونا، حاول بها مواجهة اليأس والشعور بالملل وقيد العزلة حتى لا ينجرف من جديد إلى بحر الإدمان، يقول الشاب البالغ من العمر 23 عامًا في حديثه لـ"الوطن".
قبل 4 سنوات و13 يومًا، أعلن مينا انتصاره على إدمان المخدرات المتمثلة في الخمور والحشيش، بعد رحلة تعاطي دامت ثمان سنوات كاملة بدافع الفضول وحب التجربة والتمرد على قيود أسرته له، تسبب كل ذلك في تعطيل حياته العلمية بعد أن صدر قرارًا بفصله من المعهد، إلا أنه لم يقف مكتوف الأيدي أمام العقبة التي اعترضت طريقه، يقول "مينا"، "شخصيتي تغيرت تمامًا وموقفتش وبدأت تتفتح قدامي سكك مختلفة".
ثلاث دبلومات في السلوكيات الإدمانية، أهلت الشاب العشريني المتعافي لأن يصبح معالجًا للإدمان في إطار خدمته بالكنيسة، وحين جاءت أزمة فيروس كورونا حرص على أن ينقل خبرته وتفاصيل رحلته بما فيها من متاعب وأمل للشباب، لم يتردد في دعم أحدهم وتقديم النصيحة لآخرين، ذلك لاعتباره كلمة متعافي إنجازًا ولقبًا يحاول الحفاظ عليه ويخشى فقدانه.
يقول مينا "محاولتش أشوف الأزمة من ناحية سلبية"، هكذا كان مبدأ الشاب المتعافي في التعامل مع قيود العزل المنزلي، بدأ معه التأمل في كل ما يحيط به وتعرف خلاله أيضا على متعافين آخرين من خارج الكنيسة، لتوسيع دائرة معارفه وتبادل الأفكار والخبرات بينهم، لم يزعجه في ذلك سوى أنباء تتردد من حين لآخر عن أحد أصدقائه ينتكسون من جديد يأسًا واعتراضًا على إحساس القيد المفروض عليهم، مؤكدا، "مكنتش بفكر أرجع لورا خطوة واحدة".
الصحة العالمية حذرت في بداية الأزمة من لجوء البعض إلى الإدمان للتعامل مع الانفعالات العاطفية
بالنسبة لبعض الأفرد تُمثل الخمور أو المشروبات الكحولية أو المواد المخدرة، الحل للتكيف مع حياة العزلة المنزلية، وحذرت منظمة الصحة العالمية في وقت سابق مع بداية أزمة فيروس كورونا من لجوء البعض إلى تعاطي المشروبات الكحولية والتدخين والمخدرات للتعامل مع الانفعالات العاطفية خلال الأزمة.
ووفقًا لتقديرات المكتب الأممي المعني بالمخدرات والجريمة لعام 2020، وبحسب ما أوضحت وزيرة التضامن المصرية السابقة الدكتورة غادة والي، التي تم تعيينها في أعلى منصب بمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في نوفمبر الماضي، فإن جائحة فيروس كورونا والانكماش الاقتصادي وما أتبعه من ارتفاع في نسب البطالة يهددان بمضاعفة مخاطر المخدرات بدرجة أكبر.
واستنادًا إلى بيانات مستمدة من 69 دولة تغطي الفترة بين 2014 و2018، فإن مخدر"الحشيش" يتسبب في أكثر من نصف جميع جرائم المخدرات المسجلة في تلك الدول.
كيف يكون التعامل الأمثل مع المتعافين لتجاوز أزمة كورونا؟
التعامل مع مجتمع المتعافين قائم على المجتمعات العلاجية، سواء كانت جلسات دعم نفسي على المستوى الفردي أو الجمعي، وإن الجمعي أكثر أثرًا على النفس بالنسبة لهم، لتحفيزهم وتبادل الخبرات بينهم.
يقول الدكتور هشام جمعة أخصائي علم النفس وعلاج الإدمان بصندوق مكافحة الإدمان التابع لوزارة التضامن الاجتماعي، في حديثه لـ"الوطن"، إن الإدمان معروف بكونه مرض انتكاسي، أي قد يتعرض المتعافي منه للانتكاس مرة أخرى، وبعد قرارات منع التجمعات وغلق أماكن الترفيه المختلفة، حرص صندوق مكافحة الإدمان التابع لوزارة التضامن الاجتماعي، على وضع خطة تعامل جديدة تمثلت في تطوير الخدمات المقدمة للمتعافين بشكل سريع، واستبدال جلسات العلاج الجماعية التي كانت تعقد داخل المستشفيات إلى جلسات عبر الإنترنت بمواعيد محددة، وتنقسم إلى جلسات دعم أسري لإرشاد أسر المتعافين، وجلسات دعم للمتعافين.
المستشفيات لا تزال مستمرة في حجز حالات الإدمان بالأقسام الداخلية، في ظل أزمة فيروس كورونا مع اتباع إجراءات احترازية مختلفة، ومنها مد فترات عمل العيادات الخارجية لمنع التكدس في أوقات محددة، إلى جانب تواجد مشرفين على التباعد الاجتماعي بين الجمهور، ومتطوعين لتوزيع الكمامات والكحول.
وأضاف د. جمعة، أن المرضى الجدد الذين يتم استقبالهم خلال فترة الوباء، يتم وضعهم في قسم منفصل لمدة 14 يومًا، لمراقبة ظهور الأعراض عليهم من عدمه لمنع وصول الفيروس إلى المستشفيات العلاجية.
منتكس عاد لإدمان البودرة خلال أزمة كورونا
جسد نحيل غادرته الحياة لم يظهر منه سوى عظام وجه بارزة وعينان مرهقتان من أثر المخدر، يتخفى من أعين الناس ليرتفش جرعة في عجالة، هكذا انجرف "ع.ق" من جديد إلى بحر الإدمان المظلم قبل ثلاثة أسابيع من الآن، وحين اشتدت أزمة فيروس كورونا، وما تبعها من قرارات متتالية لاستمرار غلق النوادي الرياضية ومنع التجمعات، مع الاستمرار في مد ساعات الحظر لأسابيع تلو الأخرى، لم يستطع تحمل الوضع الذي وصفه في بداية حديثه لـ"الوطن" عبر مكالمة هاتفية من مقر تواجده بأحد المصحات العلاجية من الإدمان، بـ"قيود" لم يتحملها.
لم ينصاع الشاب البالغ من العمر 26 عامًا إلى تعليمات معالجه النفسي، وأصدقائه وأقاربه بخطورة النزول إلى الشارع والاختلاط بالمجتمع في تلك الفترة، خاصة وأنه لم يمر على تعافيه إلا نحو 9 أشهر فقط، خوفا عليه من الانجراف وراء أصحاب النوايا السيئة، حتى بدأ "ع.ق" النزول مع والده في المحلات الخاصة به والمتخصصة في تصنيع الملابس بخاصة زي المدارس، "حذروني كتير وأنا مقدرتش أستحمل خنقة وملل القعدة في البيت وصممت أنزل الشارع مع والدي".
أفكار خاطئة داهمت عقل الشاب العشريني بعد أن بدأ يكتسب المال الخاص به نظير عمله مع والده، "بدأ يبقى معايا فلوس كتير ورجعت تاني أشم بودرة في الخفا"، بحسب تعبيره، وذلك بعد أن وجد في العودة للإدمان حلا للهرب من القلق وأفكار المستقبل المجهول التي تراوده كل يوم خلال تلك الأزمة.
صراع نفسي دام لعدة أيام يتخفى فيها "ع" من أسرته والمقربين له كي لا يلحظ أحدهم أي تغيير عليه، وفي ليلة وضحاها اتخذ قرارًا بعدم المضي قدمًا في ذلك النفق المظلم الذي تخلص منه بعد معاناة، اتصل بمعالجه النفسي وصارحه بانتكاسه، وعلى الفور انتقل قبل 3 أسابيع لتلقي العلاج في أحد المؤسسات في محافظته الإسكندرية، يقول "كنت مستعجل أنزل للشارع وده كان غلط عليا".
ينصح الشاب المنتكس بسبب أزمة فيروس كورونا جميع المتعافين بعدم الانجراف وراء الرغبات الشخصية وأفكار النفس، وبحسب تعبيره، "لما أطلع من المكان وأكمل علاجي هسمع كلام المعالج بتاعي وأسمع لنصيحة اللي حواليا، اتعلمت من الأزمة دي".
أعراض الانتكاس وكيف يتم التعامل مع المنتكسين في ظل أزمة الوباء
"مدمن في عزلة يعني مدمن في خطر"، مبدأ شديد الأهمية يستند إليه علماء الصحة النفسية المتعاملين مع حالات الإدمان، وبحسب تأكيد الدكتور هشام جمعة، العزلة والفراغ الكثير تساعدان الدماغ على استعادة الذكريات القديمة، وفي حالة المتعافين من الإدمان تعرف بـ"أفكار اللهفة أو الاشتياق" وعندما تراود عقل المدمن يبدأ عقله الباطن في تذكر صور المخدرات، واستعادة تلك الأحداث من جديد.
وكما هو الحال بالنسبة للجميع، فإن تغيير نظام اليوم وساعات الفراغ الكثيرة أثرت على تغيير مواعيد النوم ومدته، ومن مؤشرات الانتكاس للمتعافين تغيرات الشهية وتغيير أوقات النوم، وذلك باعتبار أن تلك الفئة تعتاد على مواعيد نوم محددة، كل ذلك يؤدي إلى إحساس بالضيق لدى الشخص المتعافي من الإدمان، مع تفكيره الدائم في أحلامه ومستقبله الذي يحول العزل المنزلي بينهم وبين الوصول إليها، ما يدفع البعض إلى الانتكاس، بحسب قول أخصائي العلاج النفسي بصندوق مكافحة الإدمان.
ويلعب المعالجون دورًا هاما في إنقاذ المتعافون لحمايتهم من الانتكاس، حيث تبدأ الخطوة الأولى بتعريفهم جيدًا بأسباب الإدمان ودحض الأفكار الخاطئة التي ترادوهم وتوعيتهم بكيفية التغلب على تلك الأزمة النفسية الناتجة عن أوقات الفراغ وتغيير الروتين اليومي، كل ذلك من خلال المحاضرات الأونلاين التحفيزية بشكل دائم، بحسب قول جمعة.