سامي عبد الراضي يكتب: طبيب الغلابة.. "معشوق" الفقراء والمساكين
سامي عبد الراضي
هنا كانت سلالم متهالكة تقود إلى عيادته في طنطا.. حتماً ستفتقده، هنا كانت كتباً متراصة يغطي التراب بعضاً منها.. حتما ستنعاه، هنا كراسي جلد كانت تستقبل مرضاه.. حتما ستبكيه.
هنا في قريتي "شبشير الحصة ومحلة روح" مرضى كان يحنو عليهم.. سيحتارون.. وطريق يشتاق الى خطواته الخفيفة.. سيسأل عنه يا رب العالمين، هذا عبدك محمد مشالي.. بين يديك.. كان يعمل 15 ساعة يوماً حتى وصلت أيام عمره إلى 76 عاماً.. هذا عبدك محمد الذي لم تعرف أيامه معنى الإجازة.. يوم العيد كان في عيادته دون انقطاع.. تدق العاشرة صباحاً وهو يدب بقدميه الضعيفتين على السلالم المتهالكة.. في العطلات تجده هناك.. كان يعمل في الشهر 30 يوماً وفي السنة 365 يوماً.. هذا الذي كان كشفه 5 جنيهات حتى سنوات معدودة ورفعه إلى 10 جنيهات. بين يديك من كان حضناً للفقراء.. بين يديك من تيتموا من بعده: كان في عيادته.. وجد طفلة وحرارتها مرتفعة.. قالت له.. "مش معايا فلوس يا دكتور.. أنا وأمي بنبيع درة تحت في الشارع.. ولما قلت لها هاجي اكشف.. قالت لي يا بنتي لسه ما استفتحتناش.. استني شوية.. لكن أنا مقدرتش.. غافلت أمي وجيت".
مرة أخرى كان في عيادته.. وجد سيدة تقدم له سبعة جنيهات.. وثمن الكشف 10.. قالت له.. ولدي بيموت.. 3 سنين.. لفيت بيه على المستشفيات وعلى الدكاترة.. كلهم كرشوني.. أبوه في السجن.. ودول اللي معايا " ليكون هو الأب الرحيم الذي يداوي دون كلل أو امتعاض.
ليست هذه الأم فقط ولكن هناك المئات بل الآلاف، كان الدكتور " مشالي " لهم الحضن..وكانت عيادته " كعبة " للغلابة في قرى طنطا.. يقول الرجل :" طب دول مش معاهم فلوس وغيرهم كتير كده.. أسيبهم لمين ".. مينفعش أسيبهم.. أبويا وصاني على الناس الغلابة.. وأنا من حوالي 45 سنة باعمل كده.. أنا فتحت العيادة دي سنة 1975.. كل يوم اجي الساعة 10 الصبح.. واطلع من هنا على عيادتي في قرية محلة روح.. ظابط نفسي على ميعاد القطر.. المحطة جنبي هنا.. والساعة اللي معايا دي.. باستخدمها وابص فيها عشان القطر مايفوتنيش".. تنظر إلى الساعة.. تجدها بقايا ساعة ولكنها تعمل وتطاوعه وترشده .
يذهب إلى القرية المجاورة، يمشي بخطوات ثابتة إلى العيادة، يلتقى مرضاه، ويكتب لهم الدواء، ويحلل لهم من خلال ميكروسكوب قديم، يريد أن يوفر عليهم تكلفة التحاليل الباهظة، ينتهي من عمله بعد ساعة أو اثنتين في العيادة.. ثم يقف في الشارع رغبة منه في العودة إلى منزله بجوار عيادته الأولي :" مفيش مرة أقف في الشارع وأشاور لعربية وصاحبها يمشي.. أشاور بس كل الناس تقف.. ملاكي.. أجرة.. سبحان الله.. أرفع إيدي بس ألاقي العربية وقفت " .
أنا مليش في الأكل.. يحكي الرجل في حوار ممتع مع الاعلامي محمود سعد قبل عامين: "أنا مش بافطر.. ولا باتغدي.. أنا بس باروح بالليل أكل مرة واحدة وشكرا.. محافظ على جسمي وبامشي.. مبحبش العربيات.. أنا يكفيني سندوتيش فول وطعمية وشكرا.. في مرة كنت مروح وجايب سندوتشين.. ولقيت واحدة بتتخانق مع ابنها.. مش خناقة بس صوتهم عالي.. الواد صغير.. وهي بتقوله.. مفيش فلوس أجيب لك سندوتشات.. يالا يا ابني.. رحت ناحية الولد واديته الأكل اللي كان معايا.. أنا عندي أكل في البيت.. لكن مين عرفني إن الولد ده في بيتهم فيه اكل.. عمري ما رحت مصيف.. انا مش باحب اللبس الجديد.. ولا باحب البحر.. ولا باحب الفسح.. ولا باحب الإجازات.. انا ربنا خلقني عشان الغلابة". يقول الدكتور مشالي: "لقد اعطتني الدينا اكثر مما اتمني واكثر مما استحق ".. لم تعطه الدنيا عيادة في شوارع وسط القاهرة كشفها الف والفي جنيه.. لم تمنحه عيادة في المهندسين يصل الكشف هناك عند بعض الاطباء والتخصصات الى 10 الاف جنيه للمريض الواحد.. لم تعطه " شاليهاً " أو فيلا او سيارة فارهة.. اعطته باباً وكان حارساً عليه.. اعطته باباً من أبواب الله ليكون خير الحارس.. باب الغلابة.. وكان نصيرهم.. باب الغلابة وكان طبيبهم.. باب الغلابة وكان حبيبهم.
سيظل الدكتور مشالي حياً في قلوب محبيه.. سيظل أيقونة من الرحمة والانسانية التي قلما يجود بها الزمان.. سيظل حبيب الغلابة حتى وان ذهب الى ربهم.. وحتماً سيجد هؤلاء "طبطبة" إلهية عليهم بعد رحيل "مشالي".. لن يتركهم الله .الدكتور مشالي سيظل حيا "زي مصر وزرعها.. زي طلعة شمسها زي نيلها وفجرها".. مشالي يعيش حتى في موته.