مريدو آل البيت.. حلقات ذكر ومديح وابتهالات فى مولد «فاطمة النبوية»
انخفاض أعداد البائعين بسبب إجراءات «كورونا»
مريدو آل البيت.. حلقات ذكر ومديح وابتهالات فى مولد «فاطمة النبوية
احتفل مريدو آل البيت، أمس الأول، بمولد «السيدة فاطمة النبوية»، ابنة الحسين بن على رضى الله عنهما، وسط أجواء من البهجة والسرور، حيث شهد محيط مسجد السيدة فاطمة النبوية بمنطقة الدرب الأحمر حلقات ذكر وابتهالات احتفالاً بمولدها، وجاء المريدون من جميع أنحاء الجمهورية للمشاركة فى الاحتفال بها، معربين عن فرحتهم بعودتهم مرة أخرى إلى رحاب «أم الحنان» المعروفة أيضاً بـ«أم اليتامى».
شارع طويل وممتد يبدأ مع مسجد السيدة فاطمة النبوية بمنطقة الدرب الأحمر بمحافظة القاهرة، فى بدايته يجلس عدد قليل من الباعة الذين جاءوا خصيصاً منذ ثلاثة أيام للمشاركة، ومحاولة بيع بضاعتهم التى كادت تكسد بسبب عدم قدرتهم على بيعها طيلة الأشهر الماضية بسبب «كورونا»، الذى أثر بالسلب على جميع مظاهر الحياة ما أدى إلى حدوث بعض الأزمات المالية لهؤلاء البائعين، الذين يدرك الكثير منهم أن المولد بمثابة انفراجة لهم ستخرجهم من تلك الأزمة التى ضربتهم الأشهر الماضية، لعدم إقامة موالد فى مواعيدها تطبيقاً لقرارات الدولة، التى اتخذتها فى محاولة للسيطرة على الوضع الوبائى، ومع بداية عودة الموالد مرة أخرى بدأ الباعة فى الزحف وهم محملون بآمال كبيرة، من بينهم «محمد موسى» الذى جاء خصيصاً من محافظة سوهاج يحمل على ظهره البلالين التى يحبها الأطفال، وعلى الرغم من مشقة السفر وقلة العائد المادى إلا أنه يرى أن تلك المشقة أفضل له كثيراً من المكوث فى المنزل دون عمل: «الحال كان واقف ومفيش فلوس، وكنت بكمل عشايا نوم أنا وعيالى، كوم لحم مالهمش غيرى، وبسبب كورونا كنت قاعد فى البيت لا شغلة ولا مشغلة، لكن دلوقتى بدأت العجلة تدور شوية والأمور تستقر، وربنا كرمنى وجمعت فلوس المواصلات علشان أقدر آجى لستنا فاطمة، وأتبارك بيها وأبيع شوية بلالين ولعب أطفال جنب المسجد».
سنوات الشقاء أخذت من «موسى» كثيراً فلم يعد يقوى على الحركة مثلما كان فى السابق، أصبح جسده نحيلاً ووجهه شاحب اللون من شدة الإعياء فهو الذى تمر عليه أيام سائراً على قدميه فى الشوارع دون راحة كى يبيع بضاعته التى يجنى منها جنيهات قليلة، ولكنها كثيرة لمن ذاق مرارة الفقر: «كله رزق من عند ربنا، وأنا بحمده وبشكر فضله طول الوقت، وباجى هنا جنب ستنا كل سنة بقالى أكتر من 30 سنة، وكل سنة ربنا بيرجعنى لعيالى مجبور الخاطر».
يشترى الرجل الستينى بضاعته من أحد تجار الجملة الذى يعطيه لعب الأطفال ويأخذ منه الأموال بعد بيعها، حيلة من التجار كى يضمن أن يوزع أكبر كمية ممكنة من بضاعته، ولكى يضمن حقه يأخذ صورة بطاقة الرقم القومى، ومعها إيصال بمبلغ البضاعة كى يضمن أن تعود إليه أمواله بعد انتهاء المولد مرة أخرى.
أسعار الحمص كانت فى متناول الجميع، حيث لم يزد ثمن الكيلو على 25 جنيهاً، لأن التجار أرادوا بيع أكبر كمية ممكنة من البضاعة، التى ظلت فى المخازن لأشهر عديدة، ربما كان الأمر الأشد غرابة هو عدم وجود بائعى حمص كثيرين، كما هو معتاد فى جميع المناسبات الدينية التى يقيمها المريدون للأولياء، يفسر «محمود خالد»، تاجر، من محافظة الغربية، ذلك الأمر ويقول إن السبب الرئيسى هو عدم وجود كميات كبيرة من الحمص فى الأسواق لقلة الطلب عليه، الأمر الذى كان سبباً فى عزوف البعض عن تجهيزه، ما أدى إلى قلة كميته فى الأسواق: «التجار كمان لسه فاهمين إن مفيش موالد والإقبال كمان ضعيف من الزوار علشان كده مفيش حمص كتير، ولا حتى فيه بياعين كتير من الأساس فى المولد».
قلة وجود البائعين فى محيط المسجد دفعت عدداً كبيراً من المواطنين إلى توزيع الطعام على المارة بالمجان، مثلما فعل «محمد موسى» الشهير بـ«قطة» الذى يمتلك مطعماً بجوار المسجد، حيث قرر العشرينى تخصيص اليوم بأكمله للزوار يقوم هو ووالدته بتجهيز الساندوتشات، وكذلك الأرز بلبن وتوزيعها على المارة: «ستنا فاطمة لها فضل علينا وخدمتها شرف كبير، علشان كده قررت أخصص كل الأكل بتاع النهارده للزوار علشان مفيش بياعين كتير فى المولد والناس بتفضل فترة طويلة فى المكان فأكيد جاعوا، عرضت الفكرة على أمى وفرحت وقالت وماله، ونزلت مخصوص وقفت معايا من الفجر علشان نجهز الطعمية والفول والرز بلبن، خلصنا على الساعة 2 الضهر، وبدأنا نوزع».
جيران «محمد» لم يتركوه وحيداً بل قرروا مشاركته فى هذا اليوم بتوزيع الطعام، يذهبون إلى المطعم ويحصلون على الساندوتشات ثم يذهبون بها إلى المسجد لتوزيعها على المريدين الذين جاءوا من مختلف البقاع للمشاركة فى تلك الليلة التى يعتبرون أنها هى الأفضل على الإطلاق: «شباب المنطقة بتساعد وواقفة معايا، الكل مبسوط بالمولد، وبالناس اللى جاية من آخر الدنيا علشان السيدة فاطمة».
فى جميع الشوارع القريبة من المسجد يوزع الأهالى المشروبات على المارة، ولا يمكن رفض تلك النفحات التى يعتبرها البعض بشرى خير عليهم، «محمد إبراهيم»، من منطقة الدرب الأحمر يمتلك محل ألبان، قرر هو الآخر توزيع ساندوتشات (سيكلانس «مربى وقشطة») على المارة كما اعتاد منذ صغره مثلما كان يفعل والده: «أبويا علمنى ده، ولما كبرت فضلت مكمل، وكل سنة باعمل حاجة جديدة؛ مرة فول نابت، ومرة ساندوتشات لحمة، والسنة دى سكلانس، وكله من خير ربنا».
ربما اختلف الأمر كثيراً بالنسبة لـ«أحمد إبراهيم»، 45 سنة، الذى جاء خصيصاً من محافظة كفر الشيخ يحمل معه حلوى يوزعها أمام المسجد، كما اعتاد منذ 20 عاماً: «باجى مخصوص لستنا فاطمة بقالى 20 سنة، ومعايا شنطة فيها حلويات باقف أوزّعها على المريدين قدام المسجد، ومستحيل حد يرفض ياخد منى علشان دى نفحات أم الحنان».
بملابس مهندمة وحذاء من الجلد وشال أبيض وعمة خضراء، يقف الرجل أمام المسجد مباشرة، يمد يده للمارة وبها قطع الحلوى التى اشتراها من إحدى المدن الشهيرة بمحافظة كفر الشيخ التى تتخصص فى تصنيعها: «الخير حلو، ودعوة الناس أحلى، علشان كده بسيب الدنيا كلها، واجى مولد ستنا فاطمة أفضل قاعد بالأسبوع، ومن الصبح لحد بالليل باقف على رجليا ومعايا الحلويات بوزّعها على الناس».
على عكس الموالد الشهيرة، لا توجد خيام كثيرة فى المنطقة، حيث لجأ المريدون إلى استئجار بعض المحلات القريبة من المسجد، وحوّلوها إلى أماكن للمبيت والأكل، يخرجون منها بعد الصلوات ويقيمون حلقات الذكر والمدح يتمايلون على كلمات أئمة المدح، يرقصون فرحاً بمولد السيدة فاطمة، يظلون هكذا حتى الصباح الباكر، وهم فى حالة من النشوة والسعادة الشديدة، ربما هذا اليوم كانوا قد حرموا منه عامين بسبب كورونا، ولكن عادت لهم فرحتهم مرة أخرى.
عِشق «مصطفى موسى»، من محافظة أسوان، لمولد السيدة فاطمة النبوية بدأ منذ أن كان صغيراً عندما كان يأتى مع والده إلى المولد، وعلى الرغم من مرور أكثر من 50 عاماً على ذلك الأمر، إلا أنه ما زال يأتى خصيصاً ومعه الطبلة التى يشارك بها فى حلقات الذكر.
تميز السبعينى بصوت قوى ومميز فى صباه، وظل يشدو فى حلقات المدح حتى أصبح الآن لا يقوى على النطق بشكل صحيح، تخلى عنه صوته كما تخلى عنه الجميع: «باجى كل سنة علشان ده مولد مايتفوّتش، وماينفعش تعدى سنة من غير ما آجى علشان أتبارك بستنا الكريمة أم الحنان».
يحمل العجوز الطبلة ويسير بها، وعندما يجد حلقات ذكر يبدأ فى الدخول إليهم ومشاركتهم، لكن دون أن يقول لهم كلمة واحدة، فقط ينخرط معهم وبعدما ينتهون يواصل السير.