«الوطن» تعيد نشر حوارها مع مؤلف «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي» بعد فوزه بـ«الدولة التشجيعية»
الباحث كريم جمال
مجهود كبير في البحث والتدقيق كُلل بالنجاح، وصولا للفوز بجائزة الدولة التشجيعية في مجال «العلوم الاجتماعية»، بفرع «التاريخ والآثار وحفظ التراث»، ليحقق الباحث الشاب كريم جمال، جزءا من حلمه القديم.
أجرت «الوطن» حوارا في أكتوبر من العام الماضي مع الباحث الشاب، بعد نشر كتابه الذي لاقى رواجا كبيرا في الفترة الأخيرة، ونعيد نشر الحوار من جديد بعد فوزه بـ«التشجيعية».
يقولون إنّ مصر ولّادة، فيها من المبدعين الكثير إلا أنّ إحدى هذه القمم، لم يقترب أحد من مكانتها أو دورها في الداخل والخارج، لتصبح بحق صورة لمصر. هي أم كلثوم المثال الحي لكيفية دعم الفنان لوطنه في أدق الظروف وأصعب المراحل. لم تدخر أي جهد وعمرها نحو 70 عاما، في خلق جبهة قتال لا تقل ضراوة عن جبهة سيناء، فنذرت نفسها للقتال من أجل جمع الأموال للمجهود الحربي استعدادا لحرب الكرامة، حرب 73 التي نحتفل بذكراها اليوم.
كريم جمال، كاتب شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، سخّر نفسه 3 سنوات لكتابة كتاب يحكي فيه عن دور أم كلثوم وجموع الشعب المصري، في المجهود الحربي ودعم الجيش لينهض من جديد ويسطر أسمى ملحمة وطنية بالتاريخ المصري. تحت اسم «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي»، «الوطن» حاورته، وإلى نص الحوار.
كيف ترى تجربة أم كلثوم في المجهود الحربي؟
أرى أنّ هذه التجربة أحق أن تروى، عكفت 3 سنوات لجمع هذا المجهود الذي أرى فيه أنّه صورة حقيقية لمصر وصورة لكيفية دعم الفنان لبلده في محنته وصولا إلى النصر، فلم تدخر كوكب الشرق جهدا للسفر خارج مصر لجمع الأموال بالعملة الصعبة، أو السفر داخل مصر لجمع الذهب استعدادا للقتال، والذي تكلل في النهاية بالنصر.
كيف استطعت جمع كل هذا القدر من المعلومات داخل مصر وخارجها؟
فتشت في أرشيف عدد كبير من الصحف المصرية والعالمية، فكان أسهل أرشيف استطعت الوصول إليه هو أرشيف فرنسا، وقد خصصت بالكتاب فصلا عن رحلة باريس، وكيف كان تأثير أم كلثوم بهذه الرحلة تحديدا وأثرها على أوروبا كلها، وكيف استطاعت أن تجعل رحلتها حديث أوروبا ومن خلالها أوصلت صوت مصر إلى العالم عموما وأوروبا بشكل خاص.
كانت رغبتي شديدة لمعرفة ماذا حدث في رحلة باريس، وكنت مهتما بمعرفة رد الفعل الصحفي عن حفلتي باريس، وكيف استقبلت أم كلثوم في ظل فترة توتر عالمية، وكان فيها يحاول ديجول في فرنسا أن يكون محايدا بعض الشيء في العلاقة المصرية الإسرائيلية: «كنت عايز أفهم رد الفعل الإعلامي، وازاي كانوا شايفين مصر وقتها، وهل هتقدر أم كلثوم تغير، فدخلت على مواقع الصحف مثل لو موند، وظهر لي سيل من المعلومات والمقالات، وكل مقال بتاريخ نشره ومن كتبه وكيف كان يرى الجانب الآخر هذا الحفل في ظل السياسة، وكذلك استطعت من خلال أرشيف الجرائد المصرية التي اطلعت عليها بالمكتبات من الوصول لصورة كاملة عن هذه الفترة وعن الحراك في أوروبا».
كذلك ساعدتني مكتبة البلدية في محرم بيه، وهي مكتبة حكومية تابعة لمتحف فنون جميلة في الإسكندرية، وبها نسخ نادرة جدا من كل الكتب التراثية، وبها تراث صحفي كبير وكل هذا مجانا، كما أنّ أرشيف بعض الإصدارات القومية كان مهما للغاية لأن بعضها كان يفرد صفحاته لجولات أم كلثوم ونشاطاتها في المجهود الحربي بشكل يومي، لذلك كانت هذه المصادر ثرية لكتابي.
اهتممت في كتابي أن أقدم شبه يوميات لأم كلثوم في المجهود الحربي، ليس لرصد هذه الشخصية ودورها بل ورصد الدور المجتمعي في دعم الجيش، وكيف كان الجيش والشعب شيئا واحدا وكيف كان التلاحم بين الجميع، فالفصل الأول أفردته للاجتماعات اللي تمت في بيتها لتجميع الذهب، من خلال محاضر جرى تفريغها في الجرائد وكذلك خطة العمل المستقبلية والتي كانت كنزا بالنسبة لي.
كيف رأيت دور أم كلثوم في أرشيف الصحف؟
لم أر أم كلثوم كشخص بل رأيت مصر التي تقف كلها في وجه الصعاب: «مصر كلها في حالة تغير وتنتظر المعركة الحاسمة وتجهز لها وكيف كانت ترى مصر حرب الاستنزاف، وكل هذا كان مهما للغاية وخريطة عامة للمجتمع المصري».
وكل هذا كان مهما لإبراز الصورة العامة وتقديم مصر كلها من خلال صوت واحد هو صوت أم كلثوم: «أم كلثوم بالنسبة لي هي مصر أيا كانت النظرة الفلسفية أو النقدية فهي مصر، أم كلثوم غنت منذ العشرينات وتوفت عام 1975، وكانت شاهدا ومعبرا عنها من خلال صوتها وتفاعلها مع ما حدث بها وهي أذكى سيدة في التاريخ المصري».
عقل أم كلثوم يستحق الدراسة مثل حنجرتها، واستطاعت أن تتكيف مع المتغيرات التي رأتها على مدار نصف قرن، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو فكرية، «نظرة أم كلثوم للعهد الملكي على أنه رمز الدولة، ولكن سنة 1946 وبداية الغضب الحادث ضد الملك فاروق وخروج الطلبة في مظاهرات لجأت للأغاني الدينية التي لها بعد سياسي، وكانت معبرة عن أحلام المجتمع الذي تعيش فيه ثم جاءت ثورة يوليو وتماهت تماما مع الثورة، التي أنصفت الفلاح فشعرت بهذا الانصاف، وصعود مصر لتصبح دولة ذات مكانة تواجه الغرب فما كان منها إلا أن تكون مع وطنها ومعبرة عن أحلام شعبها كدور أي فنان، وكذلك تقف مع وطنها في كل الصعاب وصولا للنصر».
كيف تشكلت هوية مصر الفنية؟
بعد ثورة 1919 كان هناك هدف بخلق هوية مصرية بعيدا عن هوية المحتل الإنجليزي والعثماني، بخلق هوية مصرية خالصة بنخبة مصرية، كذلك برزت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومحمود مختار وطه حسين، واستطاعت أن تجسد هذا الدور من خلال صوتها، وأصبحت اللهجة المصرية مسيطرة على العالم العربي تماما، وأصبحت مصر القبلة الأولى وأصبحت هي الصوت المشترك المعبر عن العرب من المحيط إلى الخليج.
وأرى أنّ محمود مختار عندما مثّل مصر في تماثيله فإنّه اختار ملامح تشبه الفلاحين المصريين واختار لهم رمزا هو أم كلثوم، «أظن إنه لما عمل تمثال نهضة مصر استوحى جسم الفلاحة من أم كلثوم، ولو أن مصر يرمز لها بفلاحة فخير مثال لها أم كلثوم، فهي شخصية عصامية صعدت من قاع القاع غلى قمة القمم».
كيف نقرأ علاقة أم كلثوم بثورة يوليو؟
أم كلثوم كتبت مقالا في الهلال عدد أكتوبر 1971 في ذكرى عبدالناصر بعنوان «كيف عرفت عبدالناصر»، وكان مفتاحا لفهم علاقة أم كلثوم به، وكان مفتاحا لفهم مشاعرها، وكيف جاهدت في جمع أموال لدعم المجهود الحربي، وكيف تمثل لها مصر وشعبها وكرامته.
أم كلثوم لم يطلب منها أن تدعم الدولة في المجهود الحربي، وإنّما فعلت ذلك بوطنية جارفة وإحساس كامل بالمسؤولية، فهي كانت تنتمي بالكلية لهذا البلد وهذا العصر، وكانت تفكر دائما في كيفية رفع اسم هذا البلد، فما بين يونيو وأكتوبر استطاعت أم كلثوم جمع نحو 100 كيلو ذهب.
كان ذلك شيئا مهولا، حيث كان من المهم توفير الذهب للجهيز للمعركة، ووظّفت كوادر لتنظيم جمع الذهب، وكوادر ومعارض أسر منتجة تباع في المطارات والموانئ ليوضع دخلها للمجهود الحربي، وكذلك كونت لجان اتصال خارجي ولجان للمستشفيات، وقامت بعمل منظم بشكل غير طبيعي لسيدة عمرها 70 سنة، لذلك قررت عمل 24 حفلة في 24 مدينة مصرية، لتجميع مليون جنيه.
كانت أولى حفلاتها في دمنهور ثم في الإسكندرية، ثم جات الحفلات الخارجية لأنّها أدركت أنّ الدور الخارجي أهم من الداخلي، وارتأت أنّ الحفلات الخارجية ستدر عملة صعبة وستقابل العرب بالخارج لرفع روحهم المعنوية، وستجعل مصر تذكر بكل صحف العالم، وهذا ما حدث فعلا، وعادت بمبالغ مهولة من الخارج.
كيف ترى حفلتي باريس؟
حفلتا باريس هما الأهم في حفلات أم كلثوم ليس فقط لمردودهما المالي الضخم، بل لمردودهما المعنوي والإعلامي الذي لا يوصف والذي لم يصل إليه غير أم كلثوم إلى الآن: «بعد رجوعها من باريس أحيت حفلا في المنصورة وحفلا آخر في الغربية، وهذه حفلات كان ريعها بالكامل يذهب للمجهود الحربي ولم تكن تأخذ أي أموال منها».
اهتممت بأخبار أم كلثوم في الجرائد وليس ما كتب عنها في الكتب لأقدم صورة درامية تاريخية على سنوات المجهود الحربي، فقد سخرت لها الدولة في تحركاتها فرقا إعلامية متكاملة من كبار الصحفيين والإذاعيين، وصنعت هالة لدرجة أن نقدها ليس سهلا بعد نصف نحو نصف قرن من وفاتها.