صناعات الألف مصنع تنهار.. وتشرد مئات الآلاف من العمال
فريدة من نوعها، لايوجد لها مثيل فى الشرق الأوسط. صناعاتها تتعلق بالأمن القومى، تنتجها مصانع عملاقة توفر مئات الآلاف من فرص العمل وتسعى إلى بناء نهضة شاملة، ألف مصنع تقريبا فى جميع المجالات تتنوع ما بين صناعات ثقيلة وتحويلية واستراتيجية، وضعت مصر على رأس القوى الصناعية فى الشرق الأوسط وحققت أعلى معدلات نمو فى العالم الثالث بشهادة البنك الدولى. ورغم مرور عشرات السنين على إنشاء هذه المصانع التى تعرضت فى بداية التسعينات لعملية اغتيال مخطط لها باسم «الخصخصة» بهدف تصفيتها وتدمير ما تبقى من ثورة يوليو، تتجدد المطالب بعد ثورة يناير بضرورة تبنى رؤية عبدالناصر فى تنمية الصناعة كمرجع فى عملية التنمية الصناعية القادمة، وضرورة إعادة تشغيل ما سعى النظام المباركى إلى هدمه من كيانات صناعية عملاقة تدخل ضمن المشروعات القومية المتعلقة بالأمن القومى، بينما يرى آخرون أن التنمية الصناعية فى عهد عبدالناصر كانت «نقل مسطرة» من صناعات الاتحاد السوفيتى الذى كان يبذل جهده ويساعد فى «تصنيع مصر» على النمط السوفيتى؛ ولذلك سرعان ما توقفت هذه المصانع مع انهيار الاتحاد السوفيتى.
ونعرض هنا ثلاثة نماذج من هذه الكيانات العملاقة وثيقة الصلة بالأمن النووى والمائى والحربى التى استطاع نظام مبارك القضاء عليها لمآرب فى نفس رجاله..
- المراجل البخارية.. حكم القضاء الإدارى لم يحرك ساكناً
حكومات ما بعد الثورة تجاهلت تنفيذ الحكم
كان عبدالناصر يدرك أهميتها جيدا بالنسبة للبرنامج النووى المصرى، الفكرة الوليدة آنذاك، فأصدر قراره فى بداية الستينات بإنشاء «النصر للمراجل البخارية» أول شركة فى الشرق الأوسط متخصصة فى صناعة الغلايات البخارية وأوعية الضغط العالى، بأحدث الأجهزة والمعدات، وحفرت الشركة لنفسها مكانا فى الخريطة العالمية بدأت بتصنيع الغلايات البخارية وأوعية الضغط العالى، واستطاعت إنتاج أجهزة تطهير لأفراد الحرب الكيماوية وأوعية الضغط للقوات البحرية وقواعد مدافع الهاون لمصنع «63 الحربى»، كما قامت بتصنيع أجزاء من محطة كهرباء غرب القاهرة بالاشتراك مع شركة «بابكوك هيتاشى» اليابانية، وقد أسندت إليها من شركات عالمية مثل «بابكوك هيتاشى» و«بابكوك » و«ويلكوكس» الكندية و«ستاندر كسيسل» الفرنسية عمليات من الباطن لإنتاج عدد من غلايات البخار الخاصة بمحطات القوى بالإضافة إلى تصدير مراجل سعات مختلفة لعدد من الدول العربية، وقد حصلت الشركة على شهادة «اللويذر» الدولية بقبولها من الهيئة العالمية كمصنع مراجل وأوعية ضغط، طبقا للمستوى الأول فى اللحام بالانصهار وبذلك أصبحت الشركة من الشركات العالمية فى إنتاج المراجل البخارية.
وأصبحت المراجل بمعداتها وعناصرها البشرية الفريدة الشركة الأولى بل الوحيدة فى العالم العربى والشرق الأوسط حتى استطاعت إسرائيل كسر هذا الانفراد بإنشاء شركة مثلها. واستمرت الشركة فى تحقيق نجاحاتها الإنتاجية التى أسهمت فى إنشاء البنية الصناعية فى مصر بإنتاجها حوائط تبريد لأفران صهر الصلب لشركة الحديد والصلب وكذلك أفران لشركة الدلتا للصلب وفرن صهر لحلوان للصناعات غير الحديدية، بالإضافة إلى إنتاج أبراج تقطير 4 أمتار لشركة الإسكندرية للبترول، وأيضا لشركة السويس للبترول، وعلب تبريد لـ«القومية للأسمنت» وفرن تسخين للطوب الطفلى.
وتعتبر المراجل نقطة البداية للمشروع النووى المصرى حيث تستطيع الشركة إنتاج غلايات صالحة لأن تتحول وقت اللزوم إلى مراجل نووية، بحيث يمكن أن تصبح فى المستقبل جزءا من وحدات مشروع نووى متكامل،
وبعد ثلاثين عاما من الصناعة الفريدة والعالمية، تم تنفيذ مخطط تدمير أسطورة المراجل البخارية فى بداية التسعينات عن طريق عبدالوهاب الحباك رئيس الشركة القابضة للصناعات الهندسية الذى منع عنها المواد الخام «الصاج» لتحقق الشركة أول خسارة فى تاريخها، وتتوالى الخسائر بانفجار غامض لثلاث غلايات وكانت سبب كافيا من وجهة نظر عاطف عبيد رئيس الوزراء الأسبق لبيعها لشركة أمريكية كأول شركة قطاع عام يتم بيعها فى إطار برنامج الخصخصة بمبلغ 17 مليون دولار.
وانتهى مسلسل التدمير الذى ارتسمت ملامحه عام 2008 بتصفية الشركة وبيعها لرجل الأعمال محمد عبدالمحسن شتا وساويرس وكانت هذه التصفية هى شهادة وفاة للشركة على أيديهم بتفكيك جميع المعدات والأجهزة ونقلها إلى الشركة الوطنية بالسادس من أكتوبر، وهدم منشآتها وأصبحت الشركة خاوية على عروشها.
ورغم صدور حكم قضائى بعودة الشركة إلى الدولة إلا أن حكومات الثورة المتتالية عجزت عن تنفيذه حتى الآن.
«المراجل البخارية» بإنتاجها الغلايات البخارية و«شركة كيما» بإنتاجها الماء الثقيل، تعتبران البداية القوية للمشروع النووى المصرى وعنصرا أساسيا فى صناعة القنبلة النووية.. ويرى الدكتور ممدوح حمزة، الاستشارى العالمى، أن فلسفة عبدالناصر الصناعية كانت تهدف إلى بناء دولة قوية تستطيع أن تقود العالم العربى، لذلك اتجه عبدالناصر إلى الصناعات الاستراتيجية الفريدة من نوعها فى الشرق الأوسط مثل المصانع الحربية والشروع فى إنشاء المشروع النووى ببناء محطة مفاعل إنشاص النووى وإنشاء هيئة المواد النووية وهيئة الطاقة الذرية، مما يؤكد اهتمامه بالصناعات الاقتصادية رفيعة المستوى التى تعتبر السبيل الوحيد لبناء الدولة القوية.[Quote_1]
ويطالب حمزة بضرورة إعادة تاريخ عبدالناصر فى التنمية الصناعية كمرجع فى عملية البناء القادمة، والسعى للقضاء على مخطط تصفية هذه الشركات باسم الخصخصة، مطالبا الرئيس مرسى بأن يضع تاريخ عبدالناصر الصناعى أمام عينه لكى يتمكن من إحداث تنمية حقيقية.
- تجميد مصنع صلب منذ 13 عاماً
«أبوزعبل للحديد» مصنع عجزت إسرائيل عن قتله واغتاله نظام مبارك
أجهزة ومعدات بملايين الدولارات فى العراء
نموذج آخر لفلسفة عبدالناصر الصناعية فى منطقة أبوزعبل بمحافظة القليوبية لوحة لم يشهد مثلها مكان آخر فى العالم.. لوحة رسمها الإهمال والفساد وأعداء الوطن ولصوص المال العام.
وفى خلفية هذه اللوحة يوجد واحد من أعظم مصانع الحديد والصلب فى الشرق الأوسط لكن سرعان ما انهار بفلسفة نظام لا يعرف بناء الأوطان بقدر تدميره لهذه الأوطان. مصنع أبوزعبل للحديد والصلب أقدم وأكبر مصنع استراتيجى للحديد والصلب فى مصر والشرق الأوسط تم إنشاؤه عام 1970 على مساحة 106 أفدنة يتبع الشركة الأهلية للصناعات المعدنية، وأسهم المصنع فى إنشاء البنية التحتية سواء فى المشروعات القومية الكبرى مثل السد العالى بتصنيع حديد التسليح اللازم له، أو الإنتاج الحربى كمصدر أول للحديد والصلب المستخدم فى صناعة منصات الصواريخ، من أجل ذلك كان المصنع محط أنظار إسرائيل، التى خططت لهدمه وتدميره، فقامت بقصفه إبان عدوان 1967 ودمرته، مما أسفر عن استشهاد 70 عاملا وإصابة 69 آخرين.
وعقب العدوان زاره الرئيس السابق جمال عبدالناصر، ودمعت عيناه عندما رأى آثار الدمار من القتلى والجرحى، بجانب الدمار الذى لحق بالمصنع، فأصدر على الفور قرارا بإعادة بنائه وسرعة استيراد المعدات والأفران اللازمة له من الاتحاد السوفيتى وقتها، وانطلق أكثر من 5 آلاف عامل مجددا هم عمال المصنع فى ثلاثة ورديات على مدار 24 ساعة من أجل إنتاج الحديد والصلب المطلوب فى الصناعات القومية.[Quote_2]
فجأة وبدون مقدمات توقف المصنع عام 1999، وانطفأت أفران الصهر والصب وأغلقت الورش أبوابها، ومنذ ذلك الحين، تم تفريغه من عماله بإحالتهم إلى المعاش المبكر، ولم تنجُ المعدات وأفران الصهر من عملية الاغتيال حيث تم بيع بعضها بالقطعة وترك البعض الآخر فى العراء على مدار 13 عاما فاعتراها الصدأ وكساها التراب، وتركت إدارة المصنع العديد من المعدات والأفران التى نجت من عمليات البيع والتصفية لكنها لم تنجُ من الاغتيال والتدمير حيت تتضمن عنابر المصنع المكشوفة فرن إنتاج سحب آلى لصب الحديد وفرنا آخر نصف آلى وثالثا يدويا، بينما يقبع فرن التسخين أسفل عنبر آخر حديدى وقد تآكل بنيانه، وأصبح مرتعا للكلاب الضالة التى استوطنته، وتقدر هذه الأفران بمئات الآلاف من الدورلات، واكتفت الإدارة ببضع نفر من العاملين بالشركة لحراسة بقايا المعدات.
وأعلنت حكومة النظام السابق عن بيع المصنع فى مزاد علنى فى 2008 ورسا على مستثمر إماراتى مقابل 460 مليون جنيه، ومع حدوث الأزمة المالية العالمية طالب المستثمر بتخفيض المبلغ وقوبل الطلب بالرفض، وأمهلته الحكومة حتى نهاية شهر مارس 2010 لسداد المبلغ أو فسخ العقد، وما زال وضع المصنع معلقا.
ويرى الدكتور عبدالفتاح فرج الخبير الاقتصادى أن هدف عبدالناصر من إنشاء هذه الكيانات الصناعية الجبارة هو تحقيق التنمية المستديمة والعدالة الاجتماعية وتوسعة مصادر الاقتصاد المصرى القائم على الزراعة ليشمل الصناعة أيضا، لذلك قام عبدالناصر بإنشاء ألف مصنع تم تمويلها بالمشاركة الشعبية من خلال طرح أسهم بقيمة لا تتجاوز جنيهين مثل مصنع الحديد والصلب، كما قام بتمويل المصانع الحربية وهى سلسلة من المصانع كانت تغطى الإنتاج الحربى والمدنى على السواء وتم تمويلها باستثمارات عامة، واستوعبت مئات الآلاف من العمال.
ويؤكد «فرج» أن عبدالناصر كان يؤمن بالتنمية الشاملة ولذلك انتشرت هذه المصانع جغرافيا على مستوى الجمهورية وكانت المصانع العملاقة منها فى المناطق الصناعية الجديدة تضم مساكن خاصة للعاملين بها، ويطالب فرج بضرورة إعادة تشغيل مصنع الحديد والصلب وغيره من المصانع التى عطلها النظام السابق.
بينما يرى الدكتور محمد الجوادى، المؤرخ والمفكر السياسى، أن عبدالناصر لم يكن له رؤية صناعية واضحة، موضحا أن عبدالناصر قام بإنشاء هذه المصانع «نقل مسطرة»، على حد تعبيره، من صناعات الاتحاد السوفيتى الذى كان يبذل جهده ويساعد فى «تصنيع مصر» على النمط السوفيتى ولهذا سرعان ما توقفت هذه المصانع، مع انهيار الاتحاد السوفيتى، مؤكدا أن هذه المصانع لم تكن رؤية أو فكرا شخصيا بقدر ما كانت تابعة للاتحاد السوفيتى، مضيفا أن المصانع الحربية كانت فكرة عبداللطيف البغدادى وليس عبدالناصر.
- الفساد أغرق «الكراكات» فى الديون.. وعرض الأمن المائى المصرى للخطر
الشركة عاجزة عن الدخول فى مشروعات كبرى بسبب خسارة رأس المال وتسريح العمال
من أقدم الشركات فى مصر عمرها تجاوز المائة عام، مهمتها تطهير مجرى نهر النيل بفروعه من المنبع حتى المصب، بالإضافة إلى تاريخها البارز فى أفريقيا وتحديدا فى دول حوض النيل التى انقلبت على مصر، «الكراكات المصرية» التى حرص عبدالناصر على تأميمها عام 1961 نظرا لأهميتها للأمن المائى المصرى، ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 1884، وقامت الشركة بتنفيذ خطط الدولة فى عملية استصلاح الأراضى بشق الترع الجديدة وتعميق القديمة وتكسية وتبطين الترع وصيانة القناطر الخيرية والمعديات الثابتة، كما نجحت الشركة فى معالجة انسداد فرع رشيد عام 1998 فأنقذت عشرات القرى من الغرق.
من أجل الخصخصة حاول النظام المباركى إغراق شركة الكراكات المصرية فى الديون والأزمات بفصلها عن وزارة الرى وتورط مجلس إدارتها فى قضية رشوة، وبعدها بدأت الأزمات تتوالى وحققت الشركة خسائر سنوية تصل إلى 600 مليون جنيه حسب تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات، اتجهت الإدارة إلى تصفية العمال دون أى مراعاة لخبرتهم وكفاءتهم وهو ما تؤكده شهادة تميز صادرة للشركة من وزارة الزراعة والثروة السمكية الأوغندية.
كما خضعت الشركة لقرارات متضاربة من الدمج مع شركة كراكات الشرق الأوسط والحل وإعادة الدمج، حتى صارت الآن تتبع الشركة القومية للتشييد والتعمير، ورغم امتلاكها أساطيل ضخمة من الشفاطات التى تعتبر أهم ما يميز الشركة إضافة للحفارات والمعدات العملاقة والأوناش، التى لا يوجد لها مثيل فى الشرق الأوسط ودول حوض النيل، قام المسئولون بها بالإعلان عن مزادين لبيع حفارات وأوناش وجرارات الأول بتاريخ 28 مايو عام 2008، والثانى فى 11 أكتوبر عام 2009، أسفرت عن بيع عشرات الشفاطات العملاقة والبلدوزرات والأوناش على أنها خردة بـمبلغ زهيد لم يتجاوز 4 ملايين جنيه، رغم أن سعر الشفاط الواحد لا يقل حاليا عن 15 مليون جنيه، وقد تسببت خسائر الشركة وفقا لما كشفته الموازنة الأخيرة، فى التوقف عن سداد مستحقات المقاولين المتعاملين مع الشركة من «الباطن»، الذين لجأوا للقضاء وحصلوا على 43 حكما قضائيا بالحجز على ممتلكات الشركة، وبالفعل يجرى الآن الحجز على أصول الشركة وأموالها السائلة فى البنوك لصالح المقاولين.
ويحمل عماد الحفناوى، رئيس اللجنة النقابية بشركة الكراكات، وزارة الرى مسئولية انهيار الشركة بسبب انفصالها بطريقة عشوائية من أجل الخصخصة، موضحا أن وزارة الرى كانت مدينه للشركة بـ120 مليون جنيه اليوم انقلب الوضع وأصبحت الشركة مدينة للوزارة بـ41 مليون جنيه، موضحا أن المشكلة الأكبر التى تواجه الشركة الآن هى الديون وخسارة الشركة التى تجاوزت 8 أضعاف رأس المال، حيث لا تستطيع الشركة الدخول فى المشروعات الكبرى بسبب صعوبة توفير خطابات الضمان والتأمين. وانعكست الخسائر على المعدات «المركونة» لأكثر من خمس سنوات بورش أبوزعبل حتى تمكن منها الصدأ وتم بيع بعضها على أنها خردة.
أخبار متعلقة
بعد 60 عاماً على حركة الضباط الأحرار
خالد محيى الدين.. الضابط الأحمر
محمد فائق.. الثوار لا يموتون
سامى شرف.. كاتم أسرار عبدالناصر
العميد عباس حافظ آخر زملاء عبدالناصر فى حديثه لـ«الوطن»: «البنا» لم يكن مؤهلاً لقيادة تنظيم بحجم الإخوان
ناصر ل"عامل التراحيل":الرسالة وصلت
يوسف القرضاوى.. الإفتاء عن بعد
مهدى عاكف.. الحياة من أول وجديد
محمد بديع.. السجن يصنع المعجزات
رشاد البيومى.. التعذيب لا يزال على جسدى