«الراكية» سلاح سكان «إسطبل عنتر» فى مواجهة الصقيع: «الريس أنقذنا»
فى الليل عند موجات الصقيع، يتجمع أفراد كل أسرة بالمنطقة، ويجلسون أمام المنزل، يوقدون «الراكية» ويلتفون حولها، حتى يشعروا بالدفء، ومن ثم يدخلون إلى تلك الغرف السكنية التي تكشف أكثر مما تحمى، وينامون عميقاً، حتى يوقظهم سقوط الأمطار، ومن هنا تبدأ معاناة أخرى في الحصول على مكان يحول بينهم وبين زخات المطر.
معظم شوارع «إسطبل عنتر» تنتشر بها أكوام القمامة، إلى جانب تل القمامة الكبير الموجود عند مدخل القرية، مكان تاريخي يطلق عليه قاطنو المنطقة «إسطبل عنتر»، على الرغم من أنهم يعلمون جيداً أن عنترة بن شداد لم يأت إلى تلك المنطقة من قبل، ولكن ربما يطلقون على هذا المكان ذلك الاسم من قبيل أنهم لا يعرفون اسماً آخر له، وعلى الرغم من أن هذا المكان يبدو أثرياً فإن القمامة تنتشر خلفه، مسببة موجات من الدخان ذي الروائح النفاذة التي لا يمكن لأحد تحملها.
قلوب بعض الخيرين دفعتهم للتبرع لسكان تلك المنطقة ببطاطين، من أجل توفير عوامل التدفئة، الأمر الذي اعتبره محمد وحيد، 45 سنة، أحد سكان المنطقة، بمثابة إنقاذ لهم، ذلك لأن الجميع يعلم مدى قسوة العيش دون غطاء، فى ظل وجود سقف متهالك من الخشب الذى لا يحمي من موجات البرد القارسة: «هنعمل إيه بس، ربنا وحده عالم بحالنا، بنولع نار في الشارع ونقعد كلنا حواليها نتدفى، وفيه ناس ولاد حلال جابوا لنا بطاطين، بنتغطى بيها ولا كأنها موجودة بسبب الميه اللى بتنزل علينا من كل مكان، ومهما بنعمل برضه مفيش فايدة، وعيالنا ربنا يتولاهم بقى، ده احنا كبار والبرد بيقتلنا كل يوم، أُمال هما يعملوا إيه، نفسى حد يحس بينا ويخرجنا من اللى إحنا فيه ده بأى طريقة، لأننا تعبنا ومبقاش فينا صحة تستحمل العيشة دى».
يرى الرجل أن المخرج من تلك الأمور هو مبادرة الرئيس، التى دعا من خلالها للتخلص من العشوائيات وتوفير حياة كريمة لجميع سكانها، من خلال نقلهم لبعض المشروعات السكنية التي تنفذها الدولة المصرية، من أجل التخفيف عن كاهل هؤلاء، الذين أتعبهم المرض وضيق الرزق والشدة، ولم يرحمهم البرد القارس من لدغاته التي تشبه العقرب فى شدتها.
فى شتاء العام الماضى اندلعت النيران فى أحد المنازل، بعد حدوث ماس كهربائى بإحدى ورش البلاستيك فى المنطقة، ولأن المنزل دون سقف خرسانى، اشتعلت النيران فى تلك الأخشاب الموضوعة فوق السطح، وراح معها حلم أب كان قد جمع «شوار» نجلته من أجل تجهيزها للزواج، ولم ترحم النيران صرخات الصغار، ولم تهدأ حتى التهمت جميع مقتنيات الشقة التى كانت فى الطابق الثانى.
عن هذا اليوم يقول أحمد زينهم، صاحب الشقة، إن النيران قد اندلعت جراء حدوث ماس كهربائى في ورشة لتجميع البلاستيك بجوار البيت، بسبب سقوط الأمطار على أحد الأجزاء العارية من الكابل الكهربائى، وتصاعدت ألسنة اللهب بشدة حتى ارتفعت إلى أعلى، وطالت سقف الشقة، ومن هنا بدأت مأساة الرجل الذى عانى ويلات توفير الأموال اللازمة لتجهيز ابنته: «مكنتش موجود، وبعتولى، قالوا لى النار حرقت جهاز بنتك، جريت من الشغل علشان أشوف إيه اللى حصل، لقيت كل حاجة راحت خالص، وكل الجهاز بقى رماد، تراب بقينا نلمه كده وخلاص، وطبعاً السقف كله راح ما هو كان خشب».
فى غمضة عين خسر الرجل «تحويشة العمر» التى كان قد جمعها من أجل تزويج ابنته ولكن حال الحريق دون أن يكمل فرحته تلك: «مقلتش غير الحمد لله، وشكرت ربنا إن العيال محصلش لهم حاجة».
ظروف مادية صعبة يعانى منها «زينهم» ولكنه أبى أن يحصل على تعويض لما حدث له من صاحب تلك الورشة التى كانت سبباً أساسياً فى اندلاع النيران التى التهمت سقف البيت و«جهاز» العروسة: «جالى قالى هديك اللى انت عايزه، واعتذر عن اللى حصل، قلت له لا يا عم اتكل على الله، إحنا ما بناخدش عوض، أنت ورشتك كلها ولعت باللى فيها، وخسرت كتير، كفاية يا عم عليك الخسارة لحد كده، وأنا عوضى على ربنا».
برر «زينهم» ذلك الأمر بأنه كان يعلم جيداً أن صاحب الورشة قد خسر الكثير، فهو لا يريد أن يضع حملاً آخر على عاتق الرجل، رغبة منه فى ذلك العوض الذى سيحصل عليه من ربه: «عوضى عند ربنا، هو قادر يعوضنى خير عن اللى خسرته».
يرى «زينهم» أن توسعة الدائري ستعود بالفائدة على الجميع إلى جانب أنه يريد بالفعل أن يحصل على شقة مناسبة وبسعر مريح، بدلاً من العيش فى هذا المكان: «إحنا مع الدولة في أي حاجة بتقررها، والتطوير مفيد للكل، إحنا هنستفاد لأننا هنمشى من المكان ده، وباقي الناس هتستفاد من توسعة الطريق».
توجهات الدولة للقضاء على العشوائيات تعجب الرجل كثيراً لأنه يشير إلى تمنيه لسنوات طويلة أن تهتم الدولة بتطوير العشوائيات: «كنا بنتمنى طبعاً اللى بيحصل ده، ومحدش يقدر يقول إن الدولة مقصرة فى الموضوع ده، لأن كلنا شايفين بعينينا اللي بيحصل فى مصر كلها».
تعليقات الفيسبوك