فن تحوّل إلى صناعة شهيرة بمدينة الشمس.. أحفاد الفراعنة متمسكون بـ«ركن الأجداد»
النحات سليم عسران
يجلس أحمد عطيتو متربعا على الأرض، أمام بناية متواضعة مكونة من طابق واحد، وحوله كومة من ركام حجارة، وأدوات بدائية تشبه ما استخدمه المصري القديم قبل 7 آلاف سنة، وبيده يضرب بـ«الدبورة» مكعب حجري حياله، ليشكل تماثيل فرعونية ومزهريات وأوانٍ ذات أشكال وأحجام مختلفة، بحرفية عالية ودقة شديدة.
الشمس تدخل في مرحلة صناعة الرسومات
«عطيتو» صاحب الـ37 عاما يقبع جالسًا 10 ساعات يوميا -مدة عمله- منذ الثامنة صباحًا إلى الخامسة أذان المغرب، ومن حوله انتظمت «قعدة عمل»، مكونة من فنان آخر يجاوره ينقش على الأحجار، ليخرج برسومات فرعونية شبيهة الأصل، وعلى بعد أمتار منه، قوالب الأحجار الخام وبجوارها الأشكال والتحف التي تدخل الشمس في مرحلة من مراحل صناعتها.
17 عامًا عمر «عطيتو» في فن النحت
هنا في البناية الصغيرة (يطلقون عليها ورشة أو معرض أو مصنع)، يعمل عطيتو منذ 17 عامًا في فن نحت التماثيل الفرعونية والأواني والمزهريات على طريقة المصري القديم، ورث أهم الفنون كحال أهل قريته على مدار آلاف السنين وطوّروها بإمكانات ضعيفة وبإرادة قوية، وقبل نصف قرن تجاوز فن النحت وتحوّل إلى صناعة تُعرف بالألباستر في «القُرنة» القرية الصغيرة الواقعة في الضفة الغربية للأقصر (مدينة الشمس).
تأخذ صناعة المزهرية من حجارة الألباستر مراحل شاقة عدّة، اعتادت عليها أنامل عطيتو الماهرة، تبدأ بـ«التوجيه» (تشكيل الفازة من الحجارة بالدبورة)، ثم يضعها بين راحتيه، في شكلها الأولي بوزن يصل إلى 7 كليوجرامات، ويبدأ في الصنفرة بـ«مبرد» في إحدى المراحل، حتى تخرج بشكلها النهائي بوزن لا يتجاوز الـ200 جرام.
2000 جنيه شهريًا عائد «عطيتو»
شقاء مراحل صناعة المزهرية الواحدة التي تتراوح ما بين 4 لـ7 أيام، لا تعني شيئًا لـ«عطيتو»، فشعوره بالراحة والرضا والبال الرائق غير مهموم من الجلوس لساعات طويلة، يرجع إلى شغفه بفن النحت الفرعوني ما شجعه على الاستمرار رغم العائد المادي القليل الذي لا يتجاوز الـ2000 جنيه شهريا؛ حفاظًا على لقمة العيش من جانب، وعلى التراث المصري من جانب آخر.
قطعة الحجر الألباستر أو المرمر كانت تُستخدم في بناء الأرضيات اللامعة للمعابد الفرعونية القديمة، والآن تدخل في صناعة المزهريات والأواني والجعارين وتُباع القطعة بدءًا من 100 جنيه.
10 آلاف جنيه تكلفة 8 أطنان حجارة
ويجلب صانعو الألباستر، الحجارة من جبال تبعد عن وادي الملوك بالأقصر بنحو 35 كليو عبر الجِمال أو الحمير، غير إن الطريقة شاقة تستغرق نحو ساعتين في البحث عن القطع «المكسرّة»، لذا تلجأ المصانع إلى محجر حراري بأسيوط، تنقل منه أطنان بمقابل مادي يصل إلى 10 آلاف جنيه لـ8 أطنان حجارة، بحسب ما قال أحمد جمال مالك أحد مصانع الألباستر بالقُرنة لـ«الوطن».
لوحات بنفس رسومات المعابد والمقابر الفرعونية
يبدأ الفنانون أو الماهرون كما يطلق عليهم «جمال»، في تقطيع الصخور إلى هياكل أصغر تمهيدًا لتشكيلها. وفي مصنعه، يجاور «عطيتو» زميله النحات سليم عسران، البارع في الرسم على الأحجار الحجرية والصخور البازلت السوداء، مستريحا في موقعه ومستمعا بمهارته، متخيلا حياة المصري القديم وجمالها، ناقشًا رسومات فرعونية امتدادا للأجداد في تميزهم، يعكس ذلك بأدوات بدائية «الدبورة والأزميل∙: «بنحت اللوحات بنفس الرسومات على المعابد والمقابر الفرعونية».
ينبهر السائحون عند توقفهم أمام المصنع؛ من أجل العرض والشراء لا فقط بالرسم والنحت وإنما بالألوان التي يستخدمها «عسران« من الطبيعة: «نبجيب الأحجار الملونة وبنحولها إلى بودرة وبعدين نحط عليها مثبتات، ونستخدم اللون اللي عمره ما يروح أبدا حتى بالمياه».
أكثر ما يؤرق الرجل الثلاثيني، هو خوفه من اندثار هذا الفن، خصوصا أن أبناءه لا يقدّرون صنعتهم: «ولادي بيقولوا لي راحت عليها، دلوقتي في إنترنت وحاجات تانية ومش تعب زي دي».
ركن فن الأجداد.. القطعة عمرها 50 عامًا
داخل المعرض المنتجات النهائية من مهاري القُرنة، ما بين مزهريات وأوانٍ وجعارين وتماثيل فرعونية ولوحات ذات رسومات فرعونية، غير إن هناك جانبًا يحمل اسم «فن الأجداد»: «دا بقى اللي عمله أجدادنا إحنا من 50 سنة، بنعرضه للبيع بس بيكون أغلى شوية يبدأ سعره من 600 جنيه للقطعة، لأنه بقاله عشرات السنين»، يوضح أحمد جمال صاحب المعرض، معربًا عن أمله في عودة تعافي السياحة مرة أخرى، بعد الركود العالمي الذي لاح في الأفق بسبب انتشار فيروس كورونا.